د. رامي كمال النسور *
أغلقت أسعار النفط على انخفاض عند التسوية، يوم الأربعاء الماضي مسجلة أكبر تراجع شهري في نحو ثلاثة أعوام ونصف العام بعد أن أشارت السعودية إلى تحركها نحو إنتاج المزيد وتوسيع حصتها في السوق، في حين أدت الحرب التجارية العالمية إلى انحسار توقعات الطلب على الوقود. والحقيقة أن أسعار النفط ترتبط ارتباطاً وثيقاً بصحة الاقتصاد العالمي وقليلٌ من الاقتصادات يُؤثر بقدر تأثير اقتصاد الولايات المتحدة. فعندما ينكمش الاقتصاد الأمريكي، تنتشر آثاره في الأسواق العالمية، لا سيما في قطاع الطاقة، غالباً ما يؤدي الانكماش، الذي يُشير عادةً إلى انخفاض النشاط الاقتصادي وانخفاض الإنتاج الصناعي وضعف إنفاق المستهلكين، إلى انخفاض مُقابل في الطلب على النفط، مما يُسبب ضغطاً هبوطياً على الأسعار.
وتُعدّ الولايات المتحدة من أكبر مُستهلكي النفط في العالم، فهو يُغذي النقل والصناعة والتدفئة ويُشغّل عمليات تصنيع لا تُحصى. خلال فترات الانكماش الاقتصادي، مثل فترات الركود أو التباطؤ الاقتصادي الكبير، غالباً ما تُخفّض الشركات إنتاجها ويُقلّل المستهلكون من السفر والإنفاق ويؤدي هذا الانخفاض في الطلب على الوقود ومنتجات الطاقة إلى انخفاض ملموس في استهلاك النفط.
فعلى سبيل المثال، خلال فترة الركود الاقتصادي التي سببتها جائحة كوفيد-19 عام 2020، انكمش الناتج المحلي الإجمالي الأمريكي بشكل حاد وانهارت أسعار النفط في أبريل 2020، تحولت العقود الآجلة للنفط الخام الأمريكي إلى عقود سلبية من حيث الأسعار لفترة وجيزة ولأول مرة في التاريخ مع تبخر الطلب ونفاد سعة التخزين.
ونظراً لأن النفط يُتداول عالمياً، فإن ما يحدث في الولايات المتحدة يتردد صداه في أماكن أخرى. غالباً ما يؤدي ضعف الاقتصاد الأمريكي إلى تراجع النمو العالمي، مما يؤدي إلى انخفاض الطلب على النفط من الاقتصادات الكبرى الأخرى وخاصة تلك التي تتمتع بعلاقات تجارية قوية مع الولايات المتحدة، في مثل هذه السيناريوهات، تواجه الدول المصدرة للنفط انخفاضاً في الإيرادات، مما قد يُرهق الميزانيات الوطنية وخاصة في الاقتصادات التي تعتمد بشكل كبير على صادرات النفط مثل تلك الموجودة في الشرق الأوسط وروسيا وأجزاء من أفريقيا وأمريكا اللاتينية.
تتأثر أسعار النفط أيضاً بشكل كبير بمشاعر المستثمرين والمضاربات. يمكن لمؤشرات تباطؤ الاقتصاد الأمريكي -مثل ارتفاع معدلات البطالة، أو تراجع ثقة المستهلك، أو ضعف مبيعات التجزئة- أن تُحفّز رهانات هبوطية في أسواق السلع، غالباً ما يستجيب المتداولون بسرعة للمؤشرات الاقتصادية وحتى توقع الانكماش قد يؤدي إلى تعديلات فورية في أسعار العقود الآجلة للنفط. بالإضافة إلى ذلك، يلعب الدولار الأمريكي دوراً حاسماً، يُسعّر النفط عالمياً بالدولار وخلال فترات الانكماش، إذا استجاب الاحتياطي الفيدرالي بخفض أسعار الفائدة أو إجراءات تحفيز تُضعف الدولار، فقد يُعوّض ذلك جزئياً انخفاض أسعار النفط في الاقتصادات غير الدولارية ومع ذلك، غالباً ما لا يكفي تأثير العملة هذا لتعويض انخفاض الطلب الفعلي.
عندما يُؤدي ضعف الاقتصاد الأمريكي إلى انخفاض أسعار النفط، فإنه غالباً ما يُثير رد فعل من الدول المنتجة للنفط، وخاصةً تلك الأعضاء في تحالف أوبك+.
ولمنع المزيد من الانخفاض في الأسعار، قد يوافق هؤلاء المنتجون على خفض الإنتاج لإعادة التوازن إلى السوق ومع ذلك فإن تنسيق هذه التخفيضات أمرٌ صعبٌ، وغالباً ما يتأخر، مما يؤدي إلى فترات طويلة من التقلبات.
ويؤثر انكماش الاقتصاد الأمريكي بشكل واضح ومباشر على أسعار النفط. فنتيجةً لانخفاض الطلب واهتزاز ثقة المستثمرين والتداعيات العالمية الأوسع، عادةً ما تستجيب أسواق النفط بضغطٍ هبوطيٍّ على الأسعار ومع تزايد ترابط الاقتصاد العالمي، يظلّ أداء الاقتصاد الأمريكي مؤشراً حاسماً لمستقبل أسعار الطاقة عالمياً.
وفي هذا السياق كيف يمكن للدول المنتجة للنفط التغلب على انخفاض أسعار النفط والطلب عليه.
إن من أهم السبل هو التنويع الاقتصادي الذي يُعد الاستراتيجية الأكثر فعالية على المدى الطويل للدول المنتجة للنفط، فالاعتماد حصرياً على صادرات النفط يجعل الدول عرضة لصدمات الأسعار وتقلبات الطلب وقد نجحت دولة الإمارات العربية المتحدة بالفعل في تحقيق إصلاحات هامة، مستثمرةً في قطاعات غير نفطية مثل السياحة والتكنولوجيا والطاقة المتجددة والخدمات اللوجستية والتمويل.
فقد سجل الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي لدولة الإمارات نمواً بنسبة 3.8%، وبقيمة بلغت 1,322 مليار درهم خلال الأشهر التسعة الأولى من عام 2024، مقارنة بالفترة ذاتها من عام 2023، فيما حقق الناتج المحلي الإجمالي غير النفطي، نمواً بنسبة 4.5%، بقيمة بلغت 987 مليار درهم وبلغت نسبة مساهمة الأنشطة غير النفطية، في الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي 74.6%، فيما ساهمت الأنشطة النفطية بنسبة 25.4%.
وأما على مستوى أبوظبي فقد كشف مركز الإحصاء عن تقديراتٍ أوَّلية أظهرت نمواً في الناتج المحلي الإجمالي لإمارة أبوظبي بنسبة 4.1% خلال الربع الثاني من عام 2024، مقارنةً بالفترة نفسها من عام 2023، بفضل النمو المتواصل للأنشطة الاقتصادية غير النفطية، ما يعكس نجاح استراتيجية التنويع الاقتصادي التي تنتهجها أبوظبي.
وتشير التقديرات الأوَّلية أيضاً إلى نمو جميع الأنشطة غير النفطية، ما أدَّى إلى صعود الناتج المحلي الإجمالي غير النفطي بنسبة 6.6% مُسجِّلاً أعلى قيمة ربعية عند 164.2 مليار درهم وزيادة مساهمة الأنشطة الاقتصادية غير النفطية في اقتصاد الإمارة إلى أكثر من 55.2% وهي النسبة الأعلى منذ الربع الأخير في عام 2014.
في الختام وفي حين أن انخفاض أسعار النفط والطلب عليه يُشكل تحديات كبيرة، فإنه يُمثل أيضاً فرصة تاريخية للدول المنتجة للنفط لإعادة صياغة اقتصاداتها، فمن خلال التنويع والاستثمار في الطاقة المتجددة والسياسات المالية السليمة والابتكار، يُمكن لهذه الدول بناء مستقبل أكثر مرونة واستدامة، مستقبل يزدهر بعد النفط.
* مستشار الأسواق المالية والاستدامة
0 تعليق