كتب يوسف الشايب:
تحت عنوان "مريم"، احتضن جاليري "باب الدير" في مدينة رام الله، مؤخراً، المعرض التشكيلي المنفرد للفنانة رانية عامودي، متوزعاً على اثنتي عشرة لوحة، لامست بمجموعها المقولة الافتتاحية الجامعة لها بأن "يخرجن من بين الركام، لا لأنهن اخترن، بل لأن الحياة لم تمنحهن خياراً آخر".
ويتمحور المعرض حول قضية إنسانية غاية في الأهمية، تتعلق بالجانب الخفي من حيوات زوجات الشهداء، متكئة على حكاية واقعية لزوجة شهيد، وما أسرّته لها، كصديقة عابرة في حين، وليست عابرة في أحيان، فخرجت اللوحات الزيتية، من وحي القص النسوي الحالم والمتكئ على الذكريات الجميلة والقصيرة، والمنغمس في أنسنة ما يحولهن من حولهن، كما المجتمع بغالبيته، إلى أيقونات يتفوقن على الكائنات البشرية، وفي مرحلة لا ترتقي، بطبيعة الحال إلى صف الملائكة، وإن اكتسبن قدسية ما، تكبح من أنوثتهن.
قدمّت اللوحات في "مريم"، الذي قد يكون اسم زوجة الشهيد، أو يحمل دلالة رمزية للسيدة العذراء، تلك المرأة كما هي، دون رتوش أو تزويق، في البيت أو خارجه، في يوميّاتها التي كانت، أو التي هي الآن، مسلطة الضوء على ضعفها وصلابتها في آن.
اللوحة الأولى كانت بعنوان "مريم"، وتصوّر امرأة جامحة انعكست في لون ثوبها، والطبيعة الخضراء المحيطة بها، وشعرها المتمرد على الشالة البيضاء، لكنها مستكينة في الوقت نفسه، بحيث تبدو في حلم، مغمضة العينين، نائمة، أو في غيبوبة مؤقتة، أو دائمة، بانتظار لقاء من فقدته حبيباً، بات شهيداً.
ويبدو أن لوحة "حب عند شجرة الخروب"، لم تخرج عن سياق سردية "مريم" أو زوجة الشهيد، وتظهر الفدائي المحب بلون لباسه العسكري، ومحبوبته التي هي هنا زوجته، وقتها، أو لاحقاً، يتبادلان العناق، وعلى بعد مليمتر، يقل أو يزيد قليلاً من قبلة تحت شجرة الخروب، والأمر لا يختلف كثيراً في "كرمة"، مع اختلاف الزي بعض الشيء، لتظهر ببطن منتفخة في "النافذة" وبجانبها الشهيد حي مفتول العضلات.
ولم تغب طقوس العرس السابقة والتالية، زمانياً، في سرد حكاية "مريم" وزوجها الشهيد، عبر لوحات الفنانة عامودي، كما في لوحتي "حفلة الحنة" و"العروس"، في حين تكتمل الحكاية في ثياب العزاء السوداء، في لوحتي "الفقد" و"تسابيح"، في حين تتواصل الحكاية، بعد استعادة الألوان، رفقة أولادها الذين كبروا كما في "قرنفل"، أو "الملاذ"، في رحلة "ترقب" بانتظار تحقق "الحلم"، بشكل أو بآخر.
وأشارت الفنانة عامودي إلى أنها "منذ بدء الحرب على غزة والمخيمات الفلسطينية، لفت انتباهي مشهد المرأة الفلسطينية تحت وطأة الحرب، وما تمر به من أزمات نفسية وجسدية نتيجة الفقد والجوع وانتهاك حقوقها وخصوصيتها، بحيث تتجلى تلك المرأة في هالة من القوة رغم ضعفها، وسط ظروف تسرق منها حياتها، أنوثتها، وخصوصيتها".
وهنا "تذكرت مريم وقصتها التي استحوذت على ذاكرتي بكل تفاصيلها،.. مريم بعباءتها السمراء وملامحها الساكنة التي توحي بالجمود، لكنه كان غلافاً هشّاً يخفي تحته رقة لم تجد متسعاً لتزهر، وأنوثة طواها الزمن كما يطوي الموج نفش الرمل، وإذ بي، وبعد كل تلك السنوات أرى نفسي أسترجع مريم، أروي قصتها وأحلامها المؤجلة من خلال ريشتي وألواني".
وكشفت: "كنا نتجول في أسواق المدينة، نبتاع الحاجيات ونتبادل الحكايات، ضحكات خفيفة، همسات متفرقة، وأحاديث عن تفاصيل النساء اليومية مثل الأزياء والإكسسوارات والعطور"، و"كانت هناك جلسات نميمة وتفاصيل (...) كان صوتها أكثر دفئاً عندما تتحدث عن زوجها، حبيبها الذي أصبح رفيق دربها".
وتواصل عامودي السرد: "ذات يوم، كان ابنها ذو التسع سنوات يسير بجانبها، وابنتها الصغيرة تتابعنا من عربتها بنعاس.. بدا كلّ شيء طبيعياً، حتى توقف الصبي، شيء ما في المدينة ناداه، جمد في مكانه، عيناه ثابتتان على جدار قديم وبقايا شعارات ورسومات، وملصق لرجل يحمل سلاحاً.. اقترب، ومد كفه الصغيرة، لمس الصورة، ثم انحنى ليقبلها هامساً: سوف أثأثر لك يا أبي.. التفتُ نحو مريم، فوجدتها كما لم أرها من قبل، لم تكن تلك المرأة التي تتحدث عن الحب والملابس والعطور، ولا تلك التي تشكو نساء أخريات في دائرتها.. كانت تمثالاً شمعياً، بلا حراك، بلا دموع، بلا صوت، إلا تمتمات خافتة من آيات وتسبيحات، كأن ما بداخلها احترق حتى آخر رماد".
وختمت عامودي التي قدمت حكاية بصرية غير تقليدية شكلاً ومضموناً: في تلك اللحظة التي التصق فيها ابنها بذلك الجدار، أدركت أن مريم لم تكن يوماً امرأة عادية.. أدركت حينها أنني كنت المساحة الآمنة لها، وأن خلف صلابتها، وخلف هذه الهالة الصامتة والمقدسة، كان هناك بوح خفيف، حب مدفون، أمنيات مؤجلة، أحلام ضائعة، أجهضها الغياب، مثلها مثل الكثير من نساء فلسطين".
0 تعليق