حفر الموت.. قصص مروعة قرب مركز المساعدات الأميركية في نتساريم - الكويت الاخباري

0 تعليق ارسل طباعة

محور نتساريم- خلال الأشهر الماضية افتتحت إسرائيل عدة مواقع تابعة لشركة "غزة الإنسانية" الأميركية بحجة توزيع المساعدات الغذائية في قطاع غزة، تقع جميعها في مناطق خاضعة لسيطرة جيش الاحتلال الإٍسرائيلي مما جعل كل من يصل إليها معرّضا لإطلاق النار دون مبرر أو هدف.

ورغم خطورة الحصول على مساعدات يجبر الجوع عشرات الآلاف من المجوّعين للتسابق يوميا على كمية محدودة من الطرود الغذائية في مراكز المساعدات الأميركية، وهناك يجد المواطن الفلسطيني نفسه أمام خيارات مرة إمام أن يعود لعائلته ببعض الزاد، أو يتعرض للقتل أو الإصابة الحرجة أو لقائمة تضم آلاف المفقودين.

1965 فلسطينيا استشهدوا في مصائد الموت داخل مراكز المساعدات الأميركية أو في محيطها، في حين أصيب أكثر من 14 ألفا آخرون برصاص قوات الاحتلال أو المرتزقة الأمنيين العاملين في مراكز توزيع المساعدات، وفقا لبيانات وزارة الصحة في غزة.

وفي نقطة التوزيع الأولى للمساعدات الواقعة بالقرب من محور نتساريم وسط القطاع، لم تكتف قوات الاحتلال بتحويل المركز إلى حقل رماية مفتوح تطلق منه النار باتجاه المجوعين، فقد تسببت سياسة الاحتلال في تدمير آبار مياه الشرب إلى نشوء حفر عميقة في وادي غزة، تحولت إلى فخاخ تبتلع المدنيين الباحثين عن المساعدات، حيث يضطر المواطنون للجري وسط الظلام وإطلاق النار من المسيرات والدبابات الإسرائيلية للتوجه إلى مركز المساعدات، ليسقط العشرات منهم داخل هذه الحفر العميقة.

ويُواجه الأشخاص العالقون داخل هذه الحفر العميقة، ظروفا مروعة فبعضهم أحياء يُصارعون من أجل البقاء بدون طعام أو شراب ووسط قصف إسرائيلي لا يتوقف، بينما فقد آخرون وعيهم بعد أن أنهكهم الجوع والعطش والخوف ومحاولات النجاة المتكررة، في حين تحول عشرات العالقين إلى جثامين متحللة، ومازال الأحياء منهم ينتظر يد العون لإنقاذهم من الموت.

إعلان

وبعد مرور ما يزيد عن شهرين على إنشاء الاحتلال الإسرائيلي لهذه "المراكز" المزعومة للمساعدات الأميركية، تجهل العائلات مصير أكثر من 200 مفقود، من بينهم قرابة 39 ممن سقطوا في منطقة الوادي إلى الآن.

الجزيرة نت تقدم في هذا التقرير تفاصيل مروعة من عمق غياهب الجبّ في حفر آبار المياه بعد تعرضها لعنف القصف الإسرائيلي في الأراضي الزراعية في المنطقة.

كسر في الحوض

بساقيه الهزيلتين تابع المواطن عماد البلبيسي (55) عامًا الجري ليلا نحو بوابة مركز توزيع المساعدات دون اكتراث لأصوات الموت حوله فأصوات بكاء أطفاله الأربعة الجوعى تعلو كل صوت، حاول التقدم بحرص وجلس ينتظر انخفاض حدة الرصاص المتهاوي.

ويقول للجزيرة نت "كنت قاعد بستنى فتح باب المركز وسقطت وأنا في وضعية الجلوس مباشرة داخل حفرة عمقها 3 أمتار، ورغم الألم الشديد حاولت الصعود للأعلى وبعد محاولات عدة نجحت في الخروج من الحفرة، وعند وصولي لمستشفى شهداء الأقصى في دير البلح تم تشخيص إصابتي بكسر في الحوض".

ويضيف "الحمد لله نجوت من الموت، ولكنني مضطر للبقاء في المنزل بسبب الإصابة، ولا أعرف كيف سيحصل أطفالي على الطعام الآن".

صورة مولدة بالذكاء الاصطناعي تحاكي لحظة سقوط مسن فلسطيني في إحدى حفر الموت قرب مراكز المساعدات الأميركية (الجزيرة – شات جي بي تي)

أنقذني سلك كهربائي

قصة أخرى بطلها هذه المرة أحمد، والذي خرج في تمام الساعة الثانية بعد منتصف الليل مسرعا إلى مركز التوزيع دون إضاءة ترشد طريقه خاصة في تلك الطرق غير المعبدة والمعرضة للقصف الشديد.

ويقول للجزيرة نت "الحاجة الملحّة لإطعام أطفاله وأبناء إخوته الأيتام بعد أن فقدت 3 من إخوتي مؤخرا في استهدافات إسرائيلية، هي التي دفعتني للذهاب في هذا التوقيت المتأخر على أمل الوصول مبكرا والحصول على بعض الطعام".

ويضيف "عندما اقتربت من البوابة، فُوجئت بنيران الاحتلال تنطلق تجاهنا وافترشت الأرض فورا، لكني فوجئت أن كل من حولي إما استشهد أو يصرخ من شدة الألم، حتى وجدت نفسي أصرخ ألما من شدة السقوط في عمق وادي غزة، حتى فقدت وعيي".

ويكمل أحمد حديثه قائلا "حاول أصدقائي البحث في عتمة الليل عن أي وسيلة للإنقاذ، ولم يجدوا إلا أسلاك كهرباء مهملة فشكلوا منها حبالا للرفع، واستمرت محاولتهم لإنقاذي نحو ساعتين تحت نيران قناصة الاحتلال، أما أنا فلم أستيقظ إلا على سرير المستشفى ورائحة ملابسي مختلطة بجثث الشهداء المتحللة تحتي".

صورة مولدة بالذكاء الاصطناعي تجسد محاولات الفلسطينيين لإنقاذ أقاربهم من حفر الموت قرب مركز المساعدات الأميركية في نتساريم (الجزيرة – شات جي بي تي)

دفنت ساقي خوفا من الكلاب

قصة أخرى اضطر بطلها محمد عويدات (35) عاما لدفن ساقه النازفة في الرمال خوفا من هجوم الكلاب الضالة.

يقول عويدات -وهو أب لـ5 أطفال- "طلبت طفلتي الصغيرة وتبلغ عاما ونصفا تناول الخبز"، ويضيف بصوت متهدج "هذه الكلمة والله هي السبب اللي خلّاني أتوجه للمساعدات وأحاول أجيبلهم طحين".

في تلك الليلة، خرج محمد باحثًا عن بصيص أمل في "مراكز المساعدات" المزعومة، لكن ما تفاجأ به كان الأهوال المحيطة به بكامل صورها، كان من الممكن لمشاهد الموت أمامه أن تدفعه للعودة لكن لم تمضِ خطوات قليلة حتى وجد محمد نفسه ملقى على ظهره في حفرة عميقة.

إعلان

ويضيف للجزيرة نت بجانبي شاب مصاب في صدره، وعلى يميني شهيدان سقطا للتو، وعلى الفور شعرت بسخونة تسري على ظهري، وأدركت الصدمة التالية أني غارق بدمائه بعد إصابة فخذي الأيمن بقذيفة دبابة إسرائيلية فصلت نصف ساقي عن باقي جسدي، إلا من طبقة رقيقة من الجلد".

رغم الوجع الذي ألمّ به، سارع عويدات إلى دفن ساقه النازفة بالرمال المتواجدة حوله، خوفًا أن تسلل الكلاب الجائعة لرائحة الدماء وتبدأ بنهش جسده، يقول "في تلك اللحظة، بدأت أتمنى الموت بأسلحة جيش الاحتلال قبل أن تسترشد الكلاب الضالة إلي، وبعد مرور ساعتين من النزيف والخوف، حضر من أنقذني ونقلني إلى المستشفى، وكان نقل قدمي الملتصقة بالجلد بعد انفصال العظم منها تمامًا هو الأشد وجعا".

مقتنيات دون جثمان

وخلال رحلة إعداد التقرير حصلت الجزيرة نت على صور من المسعف محمد بدوية، تكشف انتشال بعض المقتنيات الشخصية لشهيد من عائلة حمدان، لكن دون العثور عل أي أثر لجثمانه.

ويقول بدوية "نقوم بشكل دوري بالاتصال مع مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا) والصليب الأحمر ليتم التنسيق مع الجانب الإسرائيلي من انتشال المصابين والجثامين في المنطقة، ولكن الاحتلال الإسرائيلي يرفض كافة التنسيقات الميدانية لعمليات الإنقاذ في وادي غزة قرب مركز المساعدات في نتساريم".

ويؤكد المسعف الفلسطيني أن هذا الرفض المستمر من الاحتلال يفاقم من معاناة الأهالي ويجعل من استعادة جثامين الشهداء مهمة شبه مستحيلة.

ويضيف "لا يمكن للضمير الإنساني أن يقف صامتًا أمام فخ الموت في نتساريم، حيث يذهب المدنيون بحثًا عن لقمة فيصبحوا ضحايا في حفر مظلمة لا ترحم، فكل يوم يمر دون تأمين الحماية وإزالة الخطر يضيف سطرًا جديدا في هذه المأساة".

جثامين شهداء متحللة انتشلتها فرق الإسعاف من داخل حفرة عملاقة في محور نتساريم وسط قطاع غزة
جثامين شهداء متحللة انتشلتها فرق الإسعاف من داخل حفرة عملاقة في محور نتساريم وسط قطاع غزة (الجزيرة)

فرص محدودة للنجاة

الدكتور براء العطار وهو طبيب في وحدة العناية المركزة بمستشفى شهداء الأقصى، وصف فرص البقاء على قيد الحياة جراء السقوط في حفر وادي غزة العميقة بأنها ضئيلة للغاية، قائلا "من بين 100 حالة ينجو 3 إلى 4 أفراد فقط".

ويوضح العطار للجزيرة نت أن الإصابات الناتجة عن السقوط في آبار المنطقة وحفر الوادي تؤثر غالبا على الرأس والبطن، وهي إصابات مركزية وقاتلة بالأساس، و90% من الحالات تصل إلى الوفاة المباشرة، وإن تعدت مرحلة الخطر فلا تزال مخاوفنا قائمة من عدم قدرة الأعضاء المتضررة على أداء وظائفها بالكامل.

وتتفاقم خطورة الوضع بفعل منع الجيش الإسرائيلي وحدات الإسعاف والدفاع المدني من الاقتراب، ورفضه تنسيق دخول الجهات المختصة إلى المناطق التي يصنفها الاحتلال الإسرائيلي على أنها "خطرة".

ويوضح الدكتور إسماعيل الثوابتة مدير عام المكتب الإعلامي الحكومي أن هذه المآسي نتجت بعد تدمير الاحتلال غطاء الآبار وتجريف الأراضي، وما يزيد الأمر سوءًا، أن الاحتلال هو من يستدرج السكان إلى تلك المناطق الخطرة.

وقد سجل المكتب الإعلامي الحكومي في غزة رصدا يوميا خلال الفترة الممتدة من 27 مايو/أيار حتى 10 أغسطس/آب 2025، وقد شهد اليوم الأول من إنشاء نقطة توزيع المساعدات في محور نتساريم وتوافد المدنيين عليها حسب ما تم متابعته من السجل الحكومي استشهاد 30 فلسطينيا، وإصابة 46.

وكشفت البيانات زيادة في أعداد الشهداء والإصابات بنسبة 10% يوميا بعد التدقيق والمراجعة، حتى وصل عدد الشهداء في اليوم الواحد إلى ما يزيد عن 50 شهيدا ويفوق الـ300 مصاب، في عملية إعدام ميدانية أمام أنظار العالم، كما يضيف الثوابتة.

ويرى المحامي والخبير في القانون الدولي أنيس قاسم أن هذه الجريمة لا تختلف عن غيرها من جرائم الإبادة التي يتعرض لها أهالي غزة، ولكن ما يميزها أن جنود الاحتلال يتعمدون خلالها إضافة أشكال عدة من العذاب والألم والترهيب للمواطنين الفلسطينيين.

إعلان

ويقول للجزيرة نت "الآن أضافوا موضوع الحفرة وإطلاق النار على طالبي المساعدات بالإضافة إلى تدمير المستشفيات أيضًا لحرمان الناس من العلاج، وتدمير مركبات الإسعاف، وقتل الأطباء، والهدف الحقيقي زيادة عذاب الناس أكثر وتهجيرهم وحملهم على الهجرة".

ويضيف قاسم "من الواضح تماما أن الحصانة التي يتمتع بها الاحتلال الإسرائيلي من قبل الولايات المتحدة والدول الغربية على نحو خاص هي الذي تشجع الاحتلال على مواصلة العدوان والمجازر"، مؤكدا أن على المجموعة الدولية أن تتخذ إجراءات جادة لحمل إسرائيل على وقف الإبادة الجماعية والتهجير القسري في غزة.

وبدعم أميركي، ترتكب إسرائيل منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 إبادة جماعية بغزة، خلفت 62 ألفا و64 شهيدا، و156 ألفا و573 مصابا من الفلسطينيين، معظمهم أطفال ونساء، وما يزيد على 9 آلاف مفقود، ومئات آلاف النازحين، ومجاعة أزهقت أرواح 266 شخصا، بينهم 112 طفلا.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق