قال الدكتور محمد الضويني، وكيل الأزهر، إن أمتنا تمر بوقت دقيق وعصيب؛ حيث تتعرض فيه لمحاولة طمس هويتها، واغتصاب أراضيها ومقدراتها؛ خاصة ما يتعرض له الشعب الفلسطيني من أوضاع مأساوية في قطاع غزة، ومما يثير الاستغراب والتعجب حدوث هذه الجرائم المنكرة من القتل والترويع للعزل والضعفاء والجوعى في ظل صمت دولي وأممي، وفي العصر الذي ندعي أنه عصر الثقافة والتحضر والرقي وحقوق الإنسان، وعصر الحقوق والحريات، مؤكدا دعم الأزهر الشريف لجهود الدولة المصرية، التي تسعى لوقف العدوان الصهيوني الظالم، ورفض مخططات التهجير التي تستهدف طمس القضية الفلسطينية ومحوها للأبد.
وأضاف وكيل الأزهر أن احتفالنا اليوم بتكريم الفائزين بمسابقة «ثقافة بلادي» التي أطلقها مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر الشريف، يجيء في وقت نحن فيه في أمس الحاجة إلى تعزيز الوعي، وتصحيح الصور الذهنية المشوهة عن وطننا العزيز مصر، والتصدي لحملات التشهير المغرضة التي تستهدف تاريخها، ودورها، ومؤسساتها، وفي ظل هذه الأكاذيب والافتراءات، كان لصوت الطلاب الوافدين صدى كبيرا في دحض الشبهات ورد المزاعم.
وتابع الضويني، أن المسابقة أتاحت للطلاب الوافدين من مختلف الجنسيات أن يستكشفوا جمال الحضارة المصرية، وأن يعبروا عما لمسوه في الواقع المصري، بأقلامهم وإبداعاتهم، وفي ذلك دفع لمسار الحقيقة أمام التزييف، والواقع أمام الأكاذيب، فهم قد نقلوا ما رأوه في مصر: نقلوا الأمن والاستقرار، نقلوا المحبة والمودة، نقلوا الحضور الثقافي والعلمي والفني، ونقلوا رسالة الأزهر العالمية في السلام والتواصل بين الثقافات والتعايش السلمي.
واستكمل وكيل الأزهر حديثه، أننا اليوم، وفي ظل ما يشهده العالم من تحولات سريعة، تواصل مصر مسيرتها في الريادة والنهوض والعطاء والتنمية، وبناء الإنسان المثقف المتزن، وتعزز مكانتها الريادية في نشر الفكر الوسطي المستنير، وإعلاء قيم التعايش والتسامح، ومد جسور التفاهم، والتصدي لخطاب الكراهية؛ من أجل تحقيق السلام والأمن والاستقرار، وهذا يؤكد أن تثقيف الطلاب الوافدين بثقافة مصر واطلاعهم على جمالها هو الخط الدفاعي الأقوى في وجه كل المغرضين، وأن القوة الناعمة لمصر من: العلم، والفن، والحضارة، والتربية، قد وجدت في هذه المسابقة نافذة حية ومبتكرة للتواصل مع العالم، وصنع وعي جديد، وخطاب فعال، وفرصة لبيان فضل مصر العلمي والمعرفي والثقافي.
وأكد أن الثقافة ليست مجرد موروث أو ترف معرفي، بل هي منظومة متكاملة من القيم والعادات، والتاريخ، واللغة، والفنون، والأسلوب الحياتي، التي تشكل هوية الإنسان وتؤثر في رؤيته للعالم من حوله، ومن هنا، كانت مهمة نشر الثقافة المصرية للطلاب الوافدين من المهام الأصيلة، التي لا تقل أهمية عن نشر العلم والمعرفة الدينية، بل إنها تعد ركيزة أساسية في تحقيق التكامل التربوي، وتعزيز التفاهم الحضاري، وترسيخ قيم التعايش.
وبيّن الدكتور الضويني أن الأزهر الشريف حرص على ألا تقتصر مهمة تعليم الطلاب الوافدين على العلوم الشرعية والعربية فحسب، بل عمد إلى دمجهم في النسيج الثقافي المصري من خلال عدد من البرامج والمبادرات والأنشطة المتنوعة، التي تعرفهم بعظمة الحضارة المصرية، وعمقها التاريخي، ورقي فنونها، وثراء بيئتها المجتمعية، ومن خلال الفعاليات الثقافية، والزيارات الميدانية، والندوات، التي ينظمها قطاع الوافدين بالتعاون مع مؤسسات الدولة المختلفة، لينهل الطلاب الوافدون من معين الثقافة المصرية المتجدد، ويشاركون في بناء جسور التواصل الحي بين شعوب العالم، عبر بوابة الأزهر الشريف، مما يعد تعبيرا حيا عن استمراريته في أداء رسالته العلمية والثقافية والتربوية.
وأوضح وكيل الأزهر أن نشر الثقافة المصرية في نفوس الطلاب الوافدين يعمل على تعميق الانتماء لمصر باعتبارها بلدا مضيفا كريما، يحمل رسالة العلم والسلام للعالم كله، ويمنحهم من رصيده الحضاري ما يجعلهم يشعرون بأنهم بين أهلهم وذويهم، كما يعمل على تعزيز قيم الحوار والتسامح والتعايش؛ فالثقافة المصرية بثقلها التاريخي وتجربتها العريقة تمد جسورا من التفاهم بين الثقافات والأديان، وتهيئ بيئة راقية تتجلى فيها الأخوة الإنسانية في أبهى وأصدق صورها.
وأضاف أنه يعمل على تصحيح الصور النمطية عن مصر والعالم العربي والإسلامي، وذلك من خلال التفاعل المباشر مع الواقع المصري الأصيل، بعيدا عن الصور المشوهة التي تروج لها بعض المنصات الإعلامية المغرضة، كما يعمل على تمكين الطلاب الوافدين من لعب دور فاعل بعد عودتهم إلى أوطانهم؛ حيث يتحولون إلى رسل محبة وسفراء معرفة، يحملون مشاعر الحب والامتنان لمصر الأزهر، وينقلون صورتها المشرقة للعالم أجمع، وإننا نؤمن أن استثمارنا في نشر الثقافة المصرية للوافدين، هو استثمار في الإنسان، وفي العلاقات الدولية، وفي صورة مصر العالمية، التي تتجلى فيها معاني الحضارة والعراقة والتسامح، والكرم، والعلم، والمعرفة.
وأوضح أن مسابقة «ثقافة بلادي» تعبر عن أحد الأدوار الرائدة والأصيلة التي يضطلع بها الأزهر الشريف في خدمة العلم والهوية والثقافة وهو دوره في نشر الثقافة والعادات المصرية الأصيلة في الواقع المحلي والدولي، فالأزهر الشريف، هذه المؤسسة العلمية الراسخة، ليس صرحا دينيا وعلميا فحسب، بل هو حامل لهوية مصر الإسلامية والعربية، ومنطلق لإشعاعها الحضاري، وصوت صادق لثقافتها العريقة، التي تجمع بين سمو القيم، ونبل الأخلاق، ورقي العادات والتقاليد.
وأكد الدكتور الضويني أن الأزهر لم يكن في يوم من الأيام منفصلا عن الواقع المصري، بل كان نابضا بروح الوطن، ومعبرا عن مضامين ثقافته ومرسخا للعادات الحميدة التي استقاها المجتمع المصري على مر العصور؛ فقد حرص في مضامين دروسه ومناهجه التربوية، وفي توجيهاته الإعلامية والدعوية، على غرس قيم كثيرة تعد من العادات المصرية الأصيلة، فضلا عن أنه أطلق مجموعة كبيرة من البرامج والمسابقات الثقافية، التي تركز على إظهار مفاخر الحضارة المصرية، وتعرف الطلاب – خاصة الوافدين – بالعادات الجميلة، والقيم العالية المتأصلة في المجتمع المصري.
وبيّن وكيل الأزهر أن تجربة الطلاب الوافدين في الأزهر لا تقف عند الجانب العلمي، بل تتعداه إلى الاحتكاك بواقع الحياة المصرية، وتعلم الذوق العام، وأسلوب الحوار، وتقاليد المجتمع، فيعود الطالب – بعد تخرجه – إلى وطنه سفيرا لمصر، ناقلا لصورتها الجميلة، ومجسدا لقيمها في بلاده، مضيفا أن التعارف الثقافي والتبادل الحضاري بين الأمم والشعوب ليس رفاهية فكرية، ولا مظهرا من مظاهر الترف الاجتماعي، بل هو فريضة إنسانية، وحاجة ضرورية لضمان الاستقرار والتعايش السلمي.
وشدد وكيل الأزهر أن التعارف الثقافي لا يقصد به الذوبان في الآخر، ولا التنازل عن الهوية، وإنما هو انفتاح على العالم للإسهام في بناء وعي إنساني مشترك، قائم على الاحترام المتبادل، والاعتراف بالآخر، والتعايش السلمي معه، فالأزهر يدعو إلى تبني ثقافة منفتحة، تمكن الشعوب من تحديد هويتها، والحفاظ على خصوصيتها، والاستفادة من ثقافات الآخرين بما لا يعارض الخصوصيات ولا يهدد الهويات، وكم نحن اليوم أحوج إلى تكرار تلك التجارب الحضارية الرائدة، في ظل ما يشهده العالم من أزمات وهويات ضيقة تفتك بالإنسانية كافة.
واختتم وكيل الأزهر كلمته بأن مصر -بحضارتها العريقة ومنها الأزهر الشريف بمكانته العلمية والدعوية- تسعى دوما إلى أن تكون جسرا بين الشعوب، ومنبرا للحوار البناء، وراعيا للتنوع الثقافي، ومدافعا عن فكر الوسطية والسلام، ومن هنا تبرز أهمية الدور الذي يقوم به الأزهر الشريف في نشر فكر التعارف والانفتاح على العالم، دون إذابة للهوية، أو تعال على الثقافات الأخرى، ونؤكد على أهمية تسخير كل طاقاتنا لتعزيز الحضور الثقافي المصري في وجدان كل طالب وافد، ليعود إلى بلده وهو يحمل في قلبه حبا لمصر، وفي عقله نورا من أزهرها الشريف.





0 تعليق