08 مايو 2025, 10:48 صباحاً
"ليس كل ما يُقال ليبقى... ولكن كل ما يُروى يعيش فينا."
هل تتذكر آخر قصة أثرت فيك؟
ربما سمعتها منذ سنوات، أو قرأتها في لحظة عابرة، لكنها بقيت معك... تفاصيلها، مشاعرها، وربما حتى صوت الراوي.
وفي المقابل، كم من الأرقام والحقائق مرت أمامنا، ثم اختفت دون أثر يُذكر؟
ليست المسألة تفضيلًا عاطفيًا فحسب، بل حقيقة تؤكدها دراسات علمية حول تأثير السرد على الدماغ والذاكرة. فأدمغتنا تتذكر القصص أكثر مما تتذكر الإحصاءات، لأننا لا نفكر فقط... نحن نروي.
نتعلّم، ونواسي، ونُلهم، ونقنع... من خلال الحكاية، قبل أي شيء آخر.
لماذا يؤثر فينا "السرد القصصي" أكثر من أي رقم؟
يرى باحثون أن الإنسان بطبيعته "كائن سردي"، يفهم العالم من حوله من خلال القصص، لا الحقائق المجردة. وعندما نستمع إلى قصة، لا يعمل جزء واحد من دماغنا، بل عدة مناطق تنشط في آنٍ واحد:
مراكز اللغة، العاطفة، التخيل، وحتى الحركة.
أما المعلومات الرقمية، فتُعالج غالبًا في مناطق محدودة، ولا تحفّز الاستجابة العاطفية بالشكل نفسه. وهنا يظهر الفرق الكبير بين ما يُقال للعقل، وما يُروى للوجدان.
ما يحدث حين نسمع قصة مؤثرة ليس مجرد تعاطف، بل محاكاة عصبية تشعر أجسادنا وكأنها تعيش التجربة، فتصبح القصة جزءًا من ذاكرتنا العاطفية.
القصص كأداة نفسية: ما الذي تفعله بنا؟
من هنا، تظهر القوة النفسية للسرد القصصي:
•تمنحنا المعنى: في لحظات الألم أو الغموض، تساعد القصة في تفسير ما نمر به.
•تخلق تواصلًا عميقًا: مع الآخرين ومع أنفسنا.
•تسهم في الشفاء: لذلك تُستخدم القصص اليوم في العلاج النفسي، من خلال إعادة سرد التجارب وفهم الذات.
•تزرع الأمل: لأننا نرى أنفسنا في أبطال الحكايات، فنؤمن أن التحوّل ممكن.
قصة واحدة... أقوى من ألف رقم
في إحدى الحملات التي أطلقتها منظمة "يونيسف" للتوعية بأهمية التعليم في المناطق النائية، لم تبدأ الحملة بأرقام حول نسب الأمية أو معدلات التسرب، بل بدأت بقصة فتاة صغيرة تُدعى ليلى.
ليلى، من قرية في بنغلادش، كانت تمشي أكثر من 4 كيلومترات يوميًا للوصول إلى مدرستها. كانت تحلم بأن تصبح معلمة، وتحمل كتبها في حقيبة خيطتها والدتها من قماش قديم. لم تكن القصة مأساوية، لكنها كانت صادقة، إنسانية، ومفعمة بالأمل.
تجاوز التفاعل مع الحملة كل التوقعات، لأن الناس لم يتأثروا بالنسب المئوية، بل تأثروا بوجه ليلى، وبكلماتها البسيطة، وبحلمها.
هذا ليس استثناءً، بل قاعدة متكررة:
ففي كل مرة نحاول إيصال فكرة إنسانية، تعليمية، أو حتى اجتماعية، تبقى القصة هي الجسر الأسرع إلى القلوب، والعقول، والذاكرة. حتى في العلاج النفسي، لا تُبنى الجلسات على مفاهيم مجردة، بل تُستحضر قصص الطفولة والعلاقات والمواقف، ويُعاد فهمها من زوايا جديدة.لأن السرد ليس مجرد تَذكّر... بل طريقة لإعادة بناء الذات.
حين تروي... فأنت تعيد ترتيب نفسك
ربما لهذا السبب، لا يقتصر أثر القصص على الكتب أو الأفلام. بل يمتد إلى الحملات التوعوية، والتعليم، والتسويق، والعلاقات الإنسانية. حتى في المحاضرات المجتمعية، كثيرًا ما تكون القصة الواقعية هي الجسر الحقيقي نحو التأثير. فحين تُروى تجربة قريبة من حياة الناس، تُصبح المعلومة أكثر وضوحًا، والرسالة أكثر حضورًا. وأنا شخصيًا، لطالما وجدت أن تضمين القصص في محاضراتي يُحدث فرقًا واضحًا في تفاعل الحضور وعمق الفهم.
كثير من التفاهم يبدأ حين نشارك قصتنا، لا موقفنا فقط.
نحتاج إلى أن نروي، لا لنقنع الآخرين فقط، بل لنفهم أنفسنا، ونلملم أجزاءنا، ونمنح مشاعرنا صوتًا ومعنى. في عالم مزدحم بالمعلومات، تبقى القصة هي الشيء الوحيد القادر على لمس القلب، هي التي تجعل الحقيقة "تُرى"، والشعور "يُسمع"، والمعرفة "تُعاش".
ويبقى ما يُروى...
قد ننسى رقمًا قرأناه البارحة، لكننا لا ننسى قصة عشناها أو سمعناها، لأنها لم تمر فقط عبر العقل، بل عبر القلب.
لهذا، نحن لا نبحث فقط عن معلومات دقيقة أو بيانات موثقة، بل عن شيء يفسرنا، يمنحنا صوتًا، ويجعل معاناتنا مفهومة ومرئية.
نحتاج إلى أن نُروى... وأن نُفهم كما نحن، لا كما تُقاس مشاعرنا بالأرقام.
وفي النهاية،
نحن لا نبحث فقط عن المعلومات،
بل نبحث عن شيء يُشبهنا، يحكينا، يحتوينا...
وهذا تمامًا ما يفعله السرد القصصي.
0 تعليق