تشهد السياسات التجارية الأميركية تحولات لافتة، تفرض على العالم إعادة النظر في العلاقات الاقتصادية الدولية، انطلاقاً من الإجراءات التي اتخذتها إدارة ترامب، لا سيما عبر الرسوم الجمركية وإعادة تقييم الاتفاقيات التجارية.
تثير هذه السياسات أسئلة حول طبيعة النظام التجاري العالمي الحالي، وما إذا كانت الولايات المتحدة تسعى لإعادة تشكيله وفق مصالحها المباشرة، أم أنها مجرد رد فعل تكتيكي لمواجهة تحديات داخلية وخارجية.
في هذا السياق، يشير تقرير لمعهد بيترسون للاقتصاد العالمي، اطلع عليه موقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية" إلى أنه:
لم يكن من المفترض أن تُفاجئنا الرسوم الجمركية الأميركية التي فُرضت في السابع من أغسطس، فهي تُقارب في المتوسط النطاق الذي صرّح الرئيس دونالد ترامب خلال حملته الانتخابية بأنه سيفرضه في حال انتخابه. تُمثّل الرسوم الجمركية الأميركية، التي يبلغ متوسطها 17 بالمئة، عودةً إلى مستويات ما قبل الحرب العالمية الثانية. لا توجد دولة أخرى ترفع رسومها الجمركية بشكل عام، باستثناء الولايات المتحدة. غالباً ما تكون الرسوم الجمركية الأميركية تمييزية، ليس فقط عند مقارنتها بالضرائب المفروضة على المنتجات المحلية، بل أيضاً بين المنتجات المستوردة والمنتجين الأجانب والدول.يشير كبير المفاوضين التجاريين الأميركيين إلى أن النهج الذي اتبعه الرئيس ترامب في سياسته المتعلقة بالرسوم الجمركية في السابع من أغسطس يُمثل نموذجاً يُحتذى به ليس فقط لحوالي 13 بالمئة من التجارة العالمية التي تُمثلها الولايات المتحدة، بل لبقية التجارة العالمية أيضاً، أي لنسبة 87 بالمئة المتبقية.
هذا افتراض مثير للاهتمام، وفق تقرير الصحيفة، الذي يذكر أن العالم ازدهر في ظل نظام سابق، بدأ عام 1948، واستمر في العمل به عام 1995 من قِبَل منظمة التجارة العالمية، وهي منظمة تضم 166 عضوًا من الاقتصادات الكبيرة والمتوسطة والصغيرة، تُدير نظام التجارة العالمي.
في عهد الرئيس ترامب، وجدت الولايات المتحدة أن النظام غير كافٍ وغير متوازن، ولم تتلقَّ معاملة متبادلة لسنوات من ريادتها التجارية التي تركتها بتعرفة صناعية متوسطة أقل من 3 بالمئة. ومن المفترض أنه في النظام الجديد، ستعيد كل دولة التفاوض على ترتيباتها التجارية مع جميع الدول الأخرى، على غرار الولايات المتحدة. وبما أن كل دولة ستصحح اختلالاً مُتصوراً في المنافع، فإنها لن تقدم لشركائها المتفاوضين أي شيء آخر في المقابل.
ويضيف التقرير: "مع ذلك، ستحتاج إلى امتلاك القوة الاقتصادية أو السياسية لإحداث توازن جديد في علاقاتها التجارية، حيث لا يمكن الاعتماد إلا في حالات قليلة على التعديل طواعية.. ومن شأن المستقبل أن يكتشف ما إذا كان هذا النهج قابلاً للتكرار".
وعلى نطاق واسع، من المحتمل أن تكون الصين والاتحاد الأوروبي فقط هما من يمتلكان القوة الاقتصادية أو السياسية لإعادة التوازن الثنائي في العلاقات الاقتصادية مع غالبية الدول.
تحولات متسارعة
يقول خبير الاقتصاد السياسي، أبو بكر الديب، لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية":
في ظل التحولات العالمية المتسارعة، يعود دونالد ترامب حاملاً رؤية اقتصادية قومية ترتكز على مبدأ "أميركا أولاً"، بعيداً عن توجهات تحرير التجارة وتعزيز التبادل المفتوح. تعتمد هذه الرؤية على فرض رسوم جمركية شاملة وإعادة تقييم الاتفاقيات التجارية بما يحقق أفضلية نسبية للولايات المتحدة، مع استبدال مفاهيم التكامل الإقليمي والتكتلات الاقتصادية بمفاهيم التعرفات المتبادلة والمعاملة بالمثل والضغط الأحادي للتفاوض على اتفاقيات منفردة. بدأت هذه السياسات تطبق بالفعل عبر سلسلة من الإجراءات الحادة التي تشمل فرض رسوم واسعة وتهديدات بإعادة التفاوض أو الانسحاب من اتفاقيات طويلة الأمد، لتقديم مفهوم التجارة المرتبطة بالسيادة الاقتصادية.ويضيف: اللافت أن هذه السياسات لا تعتمد فقط على أدوات اقتصادية، بل تربط بين التجارة والأمن القومي وقوة الدولة وهيبتها، ما يجعل السياسة التجارية وسيلة استراتيجية لإعادة تموضع الولايات المتحدة على الصعيد العالمي، ليس كفاعل ضمن نظام قائم، بل كصانع للنظام ذاته. ويعكس ذلك مبادرات ذات طابع رمزي مثل إعلان الرسوم الموحدة، التي تشير إلى كسر القيود التي فرضتها المؤسسات الدولية لعقود على السياسات السيادية الأميركية، وفق الرؤية الأميركية.
مع ذلك، يظل السؤال مطروحاً حول ما إذا كانت هذه السياسات تشكل نظاماً تجارياً جديداً أم موجة حمائية مؤقتة، إذ تقوم على التفاوض الثنائي والضغط السياسي وليس على توافق دولي أو إطار مؤسساتي جامع.
يعتقد الديب بأن تأثير ذلك بدأ يظهر، حيث أعادت دول التفكير في علاقاتها التجارية مع الولايات المتحدة، بعض الدول رضخت للتفاوض وفق الشروط الجديدة، وأخرى سعت لتقليل الاعتماد على السوق الأميركية وتوسيع شراكات بديلة، ما خلق مناخاً غير مستقر لكنه قد يؤدي إلى توازنات جديدة.
ويرى أن رؤية ترامب لا تمثل نظاماً تجارياً جديداً بالمفهوم التقليدي، بل تشير إلى مرحلة اقتصادية مضطربة قائمة على التفوق والنفوذ، والتي قد تجبر العالم على التأقلم مع واقع جديد، سواء بالاستجابة له أو بتشكيل تكتلات موازية، مما يعيد رسم قواعد التجارة الدولية بشكل جذري.
حلفاء واشنطن
في هذا السياق أيضاً يشير تقرير لصحيفة "فايننشال تايمز" البريطانية، إلى أن الشركاء التجاريون (للولايات المتحدة) ملتزمين بالنظام التجاري العالمي، مع استعدادهم لإصلاحه، لكنهم ببساطة لا يتصرفون بالطريقة الأحادية والمعاملاتية التي تتبعها الولايات المتحدة.
ووفق التقرير، فإنه "إذا استمرت الدول الأخرى في الالتزام بالقواعد، فسيترك ذلك الولايات المتحدة تعمل في عالم خاص بها"، منبهاً إلى أنه لا يزال بإمكان إدارة ترامب إحداث تحول في التجارة العالمية؛ فالأنماط تتغير، والحلفاء يتطلعون إلى تنويع علاقاتهم. لكن من السذاجة الاعتقاد بأن الولايات المتحدة تستطيع ببساطة فرض نظام جديد، وهي لم تقنع أحدًا بجدوى نهجها المُضرّ بالنفس.
تعظيم المكاسب
من جانبه، يقول أستاذ العلاقات الدولية بجامعة شعيب الدكالي بالمغرب، الدكتور محمد عطيف، لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية": السياسات التجارية للرئيس الأميركي دونالد ترامب لا تهدف إلى تأسيس نظام تجاري عالمي جديد، بل تعكس سعيه لتعظيم المكاسب القومية المباشرة؛ بحيث أن الرسوم الجمركية والاتفاقيات الثنائية تؤكد أن العلاقات الدولية تُفهم اليوم كساحة لصراع المصالح، لأن كل طرف يسعى لتأمين تفوقه الاقتصادي بعيدا عن الالتزامات متعددة الأطراف.
ويستطرد: أعتقد بأن هذا التوجه يعكس إدراكا بأن المؤسسات الدولية ليست غاية بحد ذاتها، بل أدوات ظرفية يمكن اللجوء إليها أو تجاوزها وفق المصلحة القومية. ومن هذا المنطلق، فإن تهميش منظمة التجارة العالمية وتفضيل المفاوضات الثنائية يُظهر أن القوة توفر للفاعل النفوذ الكافي دون الحاجة للوسطاء.
وتبعا لذلك، يعتقد بأن التجارة الدولية لم تعد نشاطاً اقتصادياً محايداً، بل أصبحت أداة ضغط جيوسياسية لإعادة تشكيل موازين القوى العالمية. فالرسوم الجمركية تتجاوز البعد المالي لتصبح وسيلة لضبط قواعد التنافس بين الولايات المتحدة والقوى الدولية الصاعدة.
وعليه، يرى عطيف أن الوضع الراهن لا يشير إلى ولادة نظام تجاري عالمي جديد، إنما إلى مرحلة أكثر تنافسية وصدامية، تختبر قدرة الدول على الصمود أمام الضغوط الأميركية وإعادة التموضع ضمن واقع دولي تحكمه القوة والمصلحة أكثر من القواعد والمؤسسات متعددة الأطراف.
الصين والجنوب العالمي
وبحسب تقرير لـ "بلومبيرغ" إن حرب التعرفات الجمركية التي يشنها الرئيس دونالد ترامب تسهم في تسريع دفع بكين للتجارة والاستثمار في الدول النامية المعروفة باسم الجنوب العالمي، وذلك بالاستنادإلى نتائج لبحث أجرته شركة ستاندرد آند بورز غلوبال، مما قد يؤدي إلى خلق نظام تجاري جديد تهيمن عليه الشركات الصينية.
وذكرت الشركة أن صادرات الصين من السلع تضاعفت خلال العقد الماضي إلى دول معظمها في جنوب شرق آسيا وأميركا اللاتينية والشرق الأوسط، مقارنة بنمو قدره 28 بالمئة إلى الولايات المتحدة و58 بالمئة إلى أوروبا الغربية. وقد تسارع هذا الاتجاه خلال السنوات الخمس التي تلت ولاية ترامب الأولى.
وتأتي هذه الجهود بدفع من تداعيات الرسوم الجمركية في وقت تسعى فيه الشركات الصينية إلى أسواق جديدة في الخارج مع تباطؤ ثاني أكبر اقتصاد في العالم، ومع سعي شركاتها إلى إنشاء مراكز تصنيع للسلع من المركبات الكهربائية إلى الإلكترونيات.
وقال خبراء اقتصاديون في ستاندرد آند بورز غلوبال في التقرير: "إن حالة عدم اليقين الكبيرة في ظل الرسوم الجمركية الأميركية وتباطؤ الاقتصاد الصيني ستواصل تحفيز الشركات الصينية على التوجه نحو دول الجنوب. وقد تكون النتيجة نظامًا جديدًا للتجارة العالمية، حيث تصبح التجارة بين دول الجنوب مركز الثقل الجديد، وتبرز الشركات الصينية متعددة الجنسيات كلاعبين رئيسيين جدد".
0 تعليق