حاوره زياد خداش:
أعرف هاني من عصر ما قبل الفيسبوك، من زمن حرائق ماسنجر الهوت ميل والمدونات الشخصية حيث التواصل بالثرثرة والغموض والتخفي الحلو وغياب البيانات ومطاردة الصديقات، وممارسة ألذ أنواع الانتقام العاطفي والتشفي (البلوك)، كان اسم هاني يتردد على ألسنة الصديقات بحماسة وإثارة، أضفته على الماسنجر لأعرف هذا الساحر، أو لاستكشف ما يميزه ويجعله حديث الألسنة.
لم أحدثه مطلقاً، وظل ضوؤه الأخضر في مدار مراقبتي، أحترق بنجوميته وأموت بظلامي، فيما بعد، بعد انفجار العالم بالفيسبوك والواتس أب والتويتر، والإيميل، صار هاني صديقي، التقيته في معارض الكتب محاطاً بالمحبين، اكتشفت فيه مثقفاً كبيراً بدم خفيف ودماثة وطيبة قلب كبيرة، شتمت الصديقات اللواتي أعطينني عنه صورة خارجية سطحية عنوانها (كيتشي) صريح: شاعر المرأة اللطيف، قرأت لهاني نصوصه بتركيز، بعيداً عن تقييمات الذائبات، فوجدت فيه عمقاً كبيراً، بالنسبة لي كان شاعر الهشاشة الإنسانية الجميلة، صوره الشعرية لا أثر (لكيتش) فيها، ممتلئة بأفكار وصور تزعزع ولا تستقر، تشكك ولا تهنئ.. هذه دردشة مع هاني:
• نديم، كل هذا الحب من الناس.. ما مصدره ولماذا وكيف؟ هل أنت ملاك؟
- يا لهذا السؤال في بداية الحوار، إنه يجعلني أذهب معك حيث أردت.
أتعلم؟ عشت حياة قاسية عكس ما يبدو ربما، خبرت كافة المآسي، وخاصة الموت، موت أهلي وأعز أصحابي بمتتالية يصعب تصديقها، هذا كفيل بأن تفهم أن العمر أقصر من أي شرّ.
لدي شروري بالتأكيد، لست ملاكاً أبداً. إنما أفعل كل شيء إلا أن أوذي أحداً أو أضرّ به.. أخاف على ما بنيته داخلي من قيم، هذا أهم لدي من أي إنسان خانني أو خذلني، أكتفي بالابتعاد وإن ذهبت لا أعود. هذا أقسى ما لدي. الحياة قصيرة وحربي المستمرة داخلي تشغلني عن العراك مع الآخرين.
• قصيدتك لذيذة وطعمها كطعم فطيرة التفاح، وأنت ذكي بما فيه الكفاية لتعرف أن الطعم الحلو لا يكفي. ثمة حريق تدسه داخل الفطيرة، ما مفهومك لخلود وتأثير الشعر على الناس؟
- أنا لدي موقف مع التعالي بكل أشكاله، التعالي البشري، والجمالي في الزي والزخرف والحياة، وبطبيعة الحال، لا أحب التعالي اللغوي على الإطلاق، ابتذال البلاغات وفرد المعاجم وهدر الفرائد والموارد اللغوية أمام السامعين، ثمة جانب مزيف في هذا.
من وجهة نظري، على الشعر أن يكون عبقرياً يفكك قنبلة اللغة العنقودية تلك ويطيّرها فراشات بين أيدي الطيبين والحزانى، أشعر الشعراء عندي من لا يلبس كامل عدته البلاغية ويظهر إلى الناس، من تتلامع أثواب نبوغه في خزائنه ولكن يلبس جلاليب التردد!
أشعر الشعراء بالنسبة لي من يخاطب الناس بلسانهم دون أن يتخلى عن هيبة البلاغة. البلاغة التي يصفها ابن المقفع بأنها لفظ إذا سمعه الجاهل، ظنّ أنه يحسن قول مثله!
ولا بد لي من الإشارة، إلى أنني متذوق رفيع للقصائد الذهنية والفلسفية والتي تطرح أسئلة وجودية كبرى، ولكن لا أحب كتابتها أو لا أجيدها ربما، فهي لا تشبهني بساطة ولا لغة.
• أنت سوري. بما فيه الكفاية لكنك فلسطيني جداً باستمرار، كيف تعرفت على الألم الفلسطيني الكبير، أو لمسك الجرح الفلسطيني.. متى وكيف؟
- أنا من أبٍ سوري، ومن أم فلسطينية، هذا يفسر الأمر ربما، وقد وصفت تلك العلاقة العجائبية في نصٍ لي، أقول فيه: وكنتُ ثاني اثنين/ إذ أنا في الغار، أنينٌ في مواجهة أنين/ نصفٌ سوريٌ ونصفٌ من فلسطين/ كنت أضحكُ وأبكي، لم تبض حمامةٌ، ولا عشّشت عنكبوت/ فقط، كان الثاني يمسحُ شعرَ الأولِ كيتيم ويهمس له: "لا تحزن.. إن الله معنا".
لدي خالٌ اسمه مصطفى، وهو جنرال سابق، كان يصرّ دوماً على ذكر فلسطين ولو كان الحديث عن هونولولو، هذا التشبّث باللهجة والأرض، هذا التواطؤ الضمني في دار جدي على الحديث باللكنة الفلسطينية وذكر النكبة والنكسة والحروب والعمليات الفدائية، أقحمتني قسراً في القضية بعيداً عن البعد الجيني.
• أغار من تدفق المعجبين حولك يا هاني كيف تصنف المعجبين؟ هل تصدقهم؟ عما يبحثون فيك؟
- أخاف حقاً من مصطلح "معجبين"! من حسن حظي أنني أول عمري عملت بالقرب من المثقفين الكبار، ورأيت في الكثير منهم بأم عيني التي سيأكلها الدود، أمراضهم ونرجسيتهم وزيفهم، ومن قرفي هذا كقارئ قبل أن أصبح كاتباً، حرصت على أن أكون كما أنا بـ"عجري وبجري"، لا أخدع ولا أقدم شخصاً غيري في نصوصي، هذا أنا، من يضحك رغم حزنه، ويردّ بكل محبة وصدق على الجميع رغم هذا الكم المهول من الأعمال، وذلك بوصفهم أصدقاء لا معجبين. بيننا تبادل روحي ونفعي إن شئت. أنا بحاجة لهم وهم بحاجة لي. هكذا أعيش وهكذا أنا بطبعي.
أصادف الكثير ممن يقرؤون لي بالمطارات والمطاعم وغير ذلك، ونصبح أصدقاء حقيقيين على الفور، إذ إنه يعرف أنني أحب القهوة ومونيكا بيلوتشي وعمر سليمان والمتنبي والنساء الجميلات والنكتة الذكية. لا مسافة بيننا سوى الشاشة.. وقطعناها.
• من هو الشاعر الفلسطيني الأول الذي أحرق سهولك وجمد الدم في عروقك طرباً وجمالاً؟
- الجواب كلاسيكي جداً، محمود درويش طبعاً، ذلك الشاعر الأسطوري الذي فتح الباب على مصراعيه لتعلقي بالأدب الفلسطيني، لاحقاً غسان كنفاني وتوفيق زياد وسميح القاسم، إلا أنني وبصدق أحب هذا الجيل المعاصر أكثر وتعرفهم اسماً اسما، فجيل اليوم أكثر تعباً وصدقاً ولا منافع له حزبية أو غيرها.
• متى ستزور فلسطين يا هاني ونقرأ معاً على شاطئ عكا؟ هل تتخيل هذه الأمسية حدثني عنها. ماذا حدث بالضبط فيها؟
- ارتعدت مرتين في حياتي، واحدة منها وأنا أقف جنوب لبنان وأرى سهوب فلسطين وأشم هواءها المحمّل برائحة الزعتر البرّي، بكيت بمرارة طفلٍ وقهر رجلٍ لا يقوى على التقدم خطوتين باتجاه بلاده المنهوبة.
في عملي كرئيس تحرير لمجلة طيران، زرت ثلثي العالم، وما زالت حرقتي فلسطين.
سأزور أولاً حيفا، كرمى لأمي، وإن جئت عكّا، سأقبل المدافع كلها وأقبل السور، ونشرب قهوة في المدينة القديمة قبل الأمسية، أنا وأنت مع أصحابنا الكثر هناك، ثم سأقرأ من كل قلبي.. من كل كل قلبي.
• نصوصك حرة مبتهجة تركض بين الحقول كالأطفال. عم تبحث نصوصك يا صديقي؟
- صدقني أنني أكتب وحسب، لا أفكر تماماً بأي اتجاه ستذهب تلك النصوص، ولا من سيقرؤها، ولا ماذا سيقولون عنها، وحالما أفكر بالمكان والزمان والأشخاص، أفشل فشلاً ذريعاً.
أنا أكتب وحسب، مرة شعراً عمودياً، مرة تفعيلة، مرة نثراً، ومرة من كل هذا غير آبه لا بالمناهج ولا بالنقد.
هذا أنا أكتب ما يشبه أناشيد الرعاة، مرة تسوقني ومرة أسوقها، مرة إلى الغدران والماء السلسبيل، ومرة إلى الظمأ والهلاك، ومرة أفشل وأخرى أنجح.
إنما ربما، أقول ربما، أبحث عن نفسي من خلال لغتي.
0 تعليق