الرباط – في قلب مدينة سلا، وعلى بعد كيلومترات قليلة من العاصمة المغربية الرباط، يعمل الشاب محمد البقالي بنشاط داخل ورشته المتخصصة في الصناعات الجلدية التقليدية.
وبين أدوات الحرفة ورائحة الجلد الطبيعي، ينهمك محمد في وضع اللمسات الأخيرة على موقع إلكتروني سيعرض من خلاله منتجاته التقليدية الموجهة للأسواق الخارجية، في محاولة لربط الماضي العريق بآفاق التسويق الرقمي الحديث.
التحق محمد البقالي بمركز للتدريب المهني بالرباط، ثم تنقّل بين ورشات تدريبية في سلا وفاس، العاصمة الروحية للصناعة التقليدية، ووسّع آفاقه بالتدريب في مجالات أخرى مكملة مثل التجارة الإلكترونية والتصوير والتسويق.

قطاع اقتصادي حيوي
تعد الصناعة التقليدية من الركائز الاقتصادية الحيوية في المغرب، إذ تشغل حوالي 2.7 مليون صانع تقليدي، مما يمثل 22% من القوى النشيطة، ويسهم القطاع بـ7% في الناتج المحلي، وحقق عام 2024 رقم معاملات تجاوز 140 مليار درهم (نحو 15 مليار دولار).
وللسياحة أثر مباشر على القطاع، إذ بلغت مشتريات منتجات الصناعة التقليدية من قبل السياح 10 مليار درهم (مليار دولار)، في حين بلغت صادرات الصناعة التقليدية 1.11 مليار درهم (120 مليون دولار) عام 2024 بزيادة 3% مقارنة بعام 2023.
ويتصدر الفخار والحجر قائمة الصادرات بنسبة 36%، يليه الزرابي بنسبة 20%، وتأتي الولايات المتحدة الأميركية على رأس الدول المستوردة بنسبة 44%، تليها فرنسا بنسبة 14%، ثم إسبانيا بنسبة 6%.
إعلان
ووفق بيانات وزارة الصناعة التقليدية المغربية، يتوفر القطاع على شبكة واسعة من البنيات التحتية لإنتاج وتسويق منتجات صناعة تقليدية تغطي كافة الجهات، ويبلغ عددها أكثر من 140 وحدة قائمة و50 أخرى قيد الإنجاز موزعة بين مجمعات الصناعة التقليدية، وفضاءات العرض والبيع، وقرى ومركبات ومناطق أنشطة تقليدية، إلى جانب ما يفوق 100 دار للصانعة بالعالم القروي، فضلا عن برامج إعادة تأهيل المدن القديمة.
يقول الخبير الاقتصادي محمد جدري، في حديث للجزيرة نت، إن الصناعة التقليدية المغربية تمتلك إمكانات هائلة لم تُستغل بعد بالشكل الكافي، رغم كونها ثاني أكبر مشغل في المغرب بعد القطاع الزراعي.
ويشير جدري إلى أن القطاع يحقق رقم معاملات داخليا مهما، لكنه "ما زال يسجل أرقاما متواضعة على مستوى التصدير"، مرجعا ذلك إلى الاعتماد على أسواق تقليدية محدودة مثل فرنسا وإسبانيا وإيطاليا، مما يستدعي -وفق قوله- الانفتاح على أسواق جديدة تشمل آسيا وأوروبا الشرقية والقارة الأفريقية.

تحديات
ورغم دينامية القطاع والدعم المؤسسي، لا يزال الصناع التقليديون يواجهون تحديات بنيوية، أبرزها ضعف التسويق وهيمنة الوسطاء الذين يستغلون ضعف التنظيم المهني.
في هذا السياق، تقول النائبة البرلمانية نعيمة الفتحاوي إن الصناع التقليديين يتعرضون للاستغلال من قبل بعض الوسطاء والتجار الذين يشترون منهم المنتجات بثمن زهيد ليعيدوا بيعها بأرباح مضاعفة.
وأكدت للجزيرة نت أن الصناعة التقليدية المغربية إلى جانب كونها من ركائز الاقتصاد الوطني، فهي تمثل تراثا ثقافيا يعكس إبداع الأجيال المتعاقبة، وتُشكل عنصرا أساسيا في جذب السياح والتعريف بهوية المغرب المتنوعة.
ورغم الجهود المبذولة في إنشاء مراكز للتكوين ودعم التعاونيات، تؤكد النائبة أن الصناع التقليديين ما زالوا يواجهون صعوبات تتعلق بالتأقلم مع متطلبات السوق الحديثة، وغياب آليات فعالة للترويج.
إعلان
وشددت الفتحاوي على ضرورة تنظيم القطاع بشكل يضمن الحقوق الاجتماعية والاقتصادية للعاملات والعاملين، خصوصا أن 90% من رقم المعاملات يتم من طرف أفراد وليس شركات، مما يفرض الحاجة إلى تشريعات ملائمة وهيكلة عادلة للقطاع.
ودعت إلى دعم مشاركة هذه الفئة في المعارض الوطنية والدولية، مع إيلاء أهمية للجانب الثقافي في المنتج، ففي نظرها يبحث السائح عن منتج يعكس هوية وثقافة البلد، لا مجرد سلعة تجارية.
وأشارت المتحدثة إلى أن للمغرب أكثر من 120 حرفة تقليدية، مما يجعل المملكة من بين أولى الدول التي تتميز بصناعتها التقليدية، غير أنها ترى أن إشكالات تتعلق بالتنظيم والتسويق تحول دون رفع الصادرات المغربية من هذه المنتجات وجلب العملة الصعبة وزيادة مساهمة القطاع في الناتج الداخلي الخام.
ومن أبرز التحديات التي تعطل التوسع الخارجي، يضيف محمد جدري "محدودية القدرات اللوجستية، خاصة بالنسبة للتعاونيات الصغيرة الموجودة في مناطق نائية مثل تالوين أو خنيفرة، حيث يصعب عليها تحمل تكاليف النقل والتصدير بمفردها، مما يضعف من تنافسية منتجاتها في الأسواق العالمية".
ويرى أن التحول الرقمي يمثل اليوم أولوية ملحة، داعيا إلى رقمنة نشاط التعاونيات وتمكينها من إنشاء متاجر إلكترونية تتيح لها بيع منتجاتها مباشرة للمستهلكين حول العالم، مع الاستفادة من وسائل الأداء الرقمي المتوفرة.
وأكد أن هذا القطاع قادر على خلق الثروة وتوفير فرص الشغل للشباب شرط الاستثمار فيه بالشكل الصحيح، محذرا من أن "استمرار الوضع على ما هو عليه قد يؤدي إلى اندثار بعض الحرف التقليدية وضياع موروث ثقافي واقتصادي تناقلته أجيال متعاقبة عبر الزمن".

دعم التسويق
ودعما لتحول القطاع رقميا، وقعت وزارة الدولة المكلفة بالصناعة التقليدية والاقتصاد الاجتماعي والتضامني يوم الأربعاء الماضي مذكرة تفاهم مع مؤسسة دار الصانع ومجموعة البنك الشعبي وماستركارد لإنشاء منصة رقمية لتسويق منتجات الصناعة التقليدية على الصعيدين الوطني والدولي.
إعلان
وتهدف هذه الشراكة، وفق بيان رسمي، إلى تطوير عروض تمويل تتماشى واحتياجات الصناع التقليديين وتوفير حلول أداء رقمية مثل الدفع عبر البطاقات أو عبر الهاتف المحمول، بالإضافة إلى مواكبتهم من أجل تعزيز تحولهم الرقمي.
في اليوم ذاته تم توقيع اتفاقية شراكة أخرى لرقمنة آليات تصدير منتجات القطاع، تشمل منح شهادة التفتيش الخاصة بالمنتجات المصدرة الخاصة بالصناعة التقليدية والاقتصاد الاجتماعي والتضامني، والتقييد بسجل مصدري الصناعة التقليدية، في خطوة من شأنها تعزيز تنافسية الصناع التقليديين وإدماجهم في الاقتصاد المهيكل وتسريع ولوج المصدرين إلى الأسواق الدولية.
وأكد كاتب الدولة لحسن السعدي في تصريح أن الاتفاق "سيضع لبنة أخرى في منظومة صادرات التعاونيات والمقاولات من أجل دمجها ضمن المنظومة الوطنية للتجارة الخارجية".
0 تعليق