باريس- بينما تحتفل عواصم الدول الأوروبية، اليوم الخميس، بانتصار الحلفاء وانتهاء ألمانيا النازية في الحرب العالمية الثانية يوم 8 مايو/أيار 1945، تواجه أوروبا خطر التحول مرة أخرى إلى مسرح للصراع في ظل استمرار الحرب الأوكرانية.
ويتزعّم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الاحتفال، ويخطط قصر الإليزيه لإقامة حفل تذكاري خاص عند قوس النصر وسط باريس، مع وضع إكليل الزهور التقليدي عند تمثال الجنرال شارل ديغول، تليها مسيرة في جادة الشانزليزيه.
أما في الساحة الحمراء بموسكو، يستعد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لاستضافة أكثر من 20 من قادة العالم، لاستعراض قوة بلاده العسكرية وإظهار مدى اتساع التحالف الداعم لروسيا، مما يثير التساؤلات بشأن النفوذ الأوروبي وفعالية حلف الناتو في مواجهة الدب الروسي.
نهاية القوة الأوروبية
من منظور جيوإستراتيجي، تعني نهاية الحرب العالمية الثانية ـ في جوهرها ـ نهاية الدور القيادي للدول والإمبراطوريات الأوروبية في تشكيل الأحداث العالمية، بعد هزيمة ألمانيا وإيطاليا وإنهاك بريطانيا العظمى وفرنسا.
ويرى الباحث في المعهد الفنلندي للشؤون الدولية إدوارد هانتر كريستي، أن عام 1945 أوجد قوتين عظيمتين في العالم؛ الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، معتبرا أن أوروبا تمر اليوم بتحدٍّ جديد ومتكرر لموقعها الجيوسياسي يغذيه الاتفاق المرن بين البيت الأبيض والكرملين، ما يثبت مجددا عدم تحكم الأوروبيين في مصير القارة.
إعلان
وأشار كريستي في حديثه للجزيرة نت، إلى اعتماد أوروبا على الحماية الأميركية والخوف الشديد من القوة الروسية، لدرجة تمنع الأوروبيين من مواجهة موسكو بمفردهم، ويقول "بالرغم من عدم رضاهم عن رئاسة دونالد ترامب الثانية، إلا أنهم يخشون من فقدان الدعم الأميركي".
أما إيونيلا ماريا سيولان، مسؤولة أبحاث السياسة الخارجية والأمن والدفاع بمركز "ويلفريد مارتنز" للدراسات الأوروبية، فترى أن التهديد الروسي أدى إلى تغيير العقلية في بروكسل وأوروبا، سواء في حلف الناتو أو الاتحاد الأوروبي.
وتقول للجزيرة نت، "لأننا ندرك بشكل متزايد أهمية الدفاع الذي أصبح ولأول مرة من أهم أولويات المفوضية الأوروبية لتعزيز القدرات الدفاعية والاستعداد بشكل أفضل لاحتمال نشوب صراعات مستقبلية".
وأضافت سيولان "نشهد حاليا نظاما عالميا متعدد الأطراف يتسم بعدم الاستقرار وتصاعد الصراع بين الديمقراطية والاستبداد، والفكرة التي سيطرت على تفكيرنا السياسي منذ سقوط جدار برلين بأن أوروبا جزيرة سلام لم يعد لها أي وجود".

تحطم الوحدة
وفي انتظار تحقق الآمال الأوروبية المتعلقة بنتائج قمة الناتو التي ستُعقد هذا الصيف في لاهاي بهولندا، يطالب ترامب الأوروبيين باستثمار 5% من ناتجهم المحلي الإجمالي سنويا في الدفاع، وهي نسبة يرون أنه "مبالغ" فيها نظرا للعقبات الاقتصادية والاجتماعية التي تمر بها معظم دول أوروبا.
وبينما أكد المسؤول السابق في حلف الناتو إدوارد هانتر كريستي، تضاؤل أهمية الحلف بسبب تراجع الالتزام الأميركي، طرح تساؤلات عدة عن مقدار الانسحاب الأميركي وسرعته وكيفية تعويض الأوروبيين للمساهمة الأميركية رغم أملهم بألا تكون واشنطن "أنانية" لهذا الحد.
إعلان
وبينما لا يزال القلق قائما بشأن الطريقة التي تتعامل بها إدارة ترامب مع ملف جزيرة غرينلاند والغضب الذي تشعر به الدانمارك ودول الأخرى، لا تولي دول أوروبية عديدة هذه المشكلة اهتماما كبيرا، ما يعني أن الوحدة النظرية التي يسعى إليها الأوروبيون تتحطم نسبيا عند التطبيق العملي.
من جانبها، لا تعتقد سيولان أن دور الناتو يتلاشى، وتؤكد أنه أكثر أهمية من أي وقت مضى، لأنه منظمة سياسية بالأساس وعسكرية قادرة على توفير الدفاع للقارة الأوروبية.
ومع ازدياد شدة الخطر الروسي بظل تقارير استخبارية تُشير إلى احتمال تعرض أوروبا لهجوم روسي، خلال عامين وفي حدود 8 أعوام قادمة، أكدت المتحدثة أن الناتو يعتبر المنظمة الوحيدة القادرة على توفير هذا الردع الأمني ضد التهديد الروسي.

تعزيز القوة
وكسيناريو افتراضي للمرحلة القادمة، يتوقع الباحث كريستي، تحول الناتو إلى الحلف الأوروبي، قائلا "بقاء المؤسسة وهياكلها قائمة وعدم انسحاب أميركا منه تماما، مع ارتفاع حصة الجهود والمساهمات القادمة من الدول الأوروبية".
وهو تحليل لا يختلف كثيرا عما تقوله سيولان التي تفترض تحول الناتو من منظمة خاضعة -حتى الآن- للاستثمارات الدفاعية الأميركية، إلى منظمة أكثر تكافؤا بين الأوروبيين والأميركيين، عبر "تعزيز الركيزة الأوروبية للناتو وزيادة الاستثمار، وضمان الأمن التقليدي لتغطية جميع الثغرات في أنظمتنا".
وفي النهج الأمني الشامل، يدل الأمن التقليدي على مكافحة الهجمات التقليدية الهجينة، من أمن الطاقة إلى التضليل الإعلامي، والتدخل في العمليات الانتخابية وانتهاك المجال الجوي وحماية البنية التحتية الحيوية.
وفي حال خرج الأميركيون من أوروبا وسحبوا قوّاتهم منها، سيكون ذلك "مشكلة جدية"، إذ ستصبح مصداقية الناتو وإدارة ترامب في التزامها بأمن أوروبا، والدفاع الجماعي -كما تنص المادة الخامسة من ميثاق الناتو- في حال تعرض دولة واحدة لهجوم، موضع شك، حسب مسؤولة أبحاث السياسة الخارجية والأمن والدفاع بمركز "ويلفريد مارتنز".
إعلان
الخطر الروسي
وبعد ساعات من سريان الهدنة المؤقتة التي أعلنها الكرملين بمناسبة يوم النصر، قال وزير الخارجية الأوكراني أندريه سيبيغا، إن الروس هاجموا خط الجبهة. وفي المقابل، أعلنت وزارة الدفاع الروسية التزامها بعدم شن أي غارات حتى منتصف ليل السبت.
وفي هذا الإطار، يرى كريستي، أنه وفي حال نجح الأوكرانيون بضرب العرض العسكري في موسكو أو أي هدف عسكري آخر، غدا الجمعة، فسيكون ذلك بمثابة نصر رمزي وسياسي لكييف وسيُشعر الروس بالازدراء، لكنه سيواجه برد روسي عنيف.
ويعتبر كريستي أن احتمال القصف الأوكراني سيكون بمثابة رسالة مهمة للكرملين وللعالم مفادها أن روسيا لا تمتلك الشرعية لتمجيد دورها وانتصارها على ألمانيا النازية، لأنه كان انتصارا سوفياتيا، شارك بتحقيقه ملايين الجنود الأوكرانيين، فضلا عن الأرمن والبيلاروسيين وغيرهم.
وضمن سعي القومية الروسية في عهد بوتين لتكريس الادعاء بأن روسيا والاتحاد السوفياتي هما الشيء نفسه، يعتقد المتحدث أن ثمة ما يستحق الهجوم المشروع على هذه الاستثنائية الروسية في الوصول إلى برلين وهزيمة أدولف هتلر ومحاولة التلاعب بمشاعر الجمهور الروسي.

من جهتها أشارت سيولان إلى عدم استعداد روسيا للسلام أو بدء المفاوضات أو وقف إطلاق النار في أوكرانيا، في ظل زيادة إنفاقها الدفاعي من 6% من الناتج المحلي الإجمالي العام الماضي إلى 9% هذا العام.
ويبدو ذلك جليا في الاتجاه الذي يسلكه الاقتصاد الروسي أكثر فأكثر نحو اقتصاد الحرب، وزيادة الكرملين أعداد الجنود من مليون ومائتي ألف إلى مليون ونصف عام 2025، إضافة لإنتاج المزيد من الدبابات.
وحتى في ظل مفاوضات السلام التي تتوسط فيها إدارة ترامب، لا تتوقع سيولان نهاية للحرب هذا العام لأن "روسيا تتخذ موقفا متطرفا وتتصرف كما لو كانت المنتصرة في الحرب الأوكرانية، وفي الواقع لم تسيطر خلال الحرب إلا على 12% من أراضي أوكرانيا".
إعلان
0 تعليق