يختلف الكثير في تصنيف بعض الروايات، فيتساءل الناقد أو القارئ أهي رواية فعلا؟ أم سيرة ذاتية؟ أم ربما سيرة غيرية؟ لكن الأمر مختلف بعض الشيء في رواية "نيران وادي عيزر" للكاتب والمترجم الجزائري "محمد ساري" (مواليد 1958) والصادرة عن دار العين للنشر، مصر، عام 2022.
ويفصح ساري منذ الصفحة الأولى عن طبيعة روايته، إذ يقول إنها رواية سيرة/قصة حقيقية. لكن يبقى السؤال قائما هنا قبل الشروع بقراءة العمل، أهي سيرة الكاتب الشخصية؟ أم سيرة غيرية لأحدهم؟
رواية سيرة
مع الفصول الأولى تتكشف حقيقة ما قصد الكاتب بعبارة "رواية سيرة"، إذ يجمع العمل بين السيرة الذاتية (أي سيرة محمد ساري نفسه) وسيرتين غيريتين (سيرة والده ووالدته). واللالفت في الشق الخاص بسيرة الكاتب أن الرواية تنتهي تقريبا بإعلان استقلال الجزائر من الاحتلال الفرنسي عام 1962، أي أن الكاتب كان ما يزال في مرحلة الطفولة، وهنا ندرك أن أحداث الرواية تقع في فترة زمنية حتى قبل ولادة محمد ساري، الكاتب وبطل القصة في آن، فالرواية تعتمد على سرد الأحداث الرئيسة على لسان من عايشها، وبشكل أساس عن لسان الأم والأب، من زاويتين مختلفتين.
يضعنا العنوان مباشرة قبالة عتبة النص الأولى، وهي الحرب المكانية، إذ احتوى العنوان على عنصر مكاني ثابت (وادي عيزر)، وعنصر متحرك قابل للتأويل وهو كلمة "نيران"، بصيغة الجمع، ليأتي العنوان محتقنا بالكثير من الافتراضات عن ماهية العمل. وبالنظر سريعا إلى الغلاف، نلاحظ تقاطعه بالعنوان، إذ تتوسط الغلاف خارطة وصورة للكاتب في مراهقته.
إعلان
العتبة الثانية للنص كانت الإهداء والمرتبط ارتباطا وثيقا بكون الرواية هي سيرة لحياة الكاتب ووالديه، وبصورة أوسع سيرة وادي عيزر في تلك المرحلة الدقيقة جدا من تأريخ الجزائر بدءا من ثورة التحرير مرورا بالجهاد المسلح والنضال والاعتقالات والعمليات الفدائية والاغتيالات، انتهاء باستقلال الجزائر.
يهدي ساري روايته إلى والديه، إلى الأب الذي شارك في تحرير الجزائر في نضال استمر لسنوات، وإلى الأم التي كان لها نضال من نوع آخر. نضال الأم التي كانت الأب والأم في آن بغياب الأب سواء في الحرب أو في المعتقل. ليستمر الإهداء شاملا كل سكان نواحي مدن عيزر وتيتاموسي وريفاي الذين قصوا الحكايات له ليتمكن، حسب قوله، من تشكيل هذه الرواية.
في هذه الرواية يتدامج التأريخ المكتوب، التأريخ الذي نعرف، عن تلك الحقبة الصعبة التي أدت إلى الاستقلال، أي الخمسينيات وبداية الستينيات من القرن الماضي، بالتأريخ المحتمل الحدوث، أو التأريخ الروائي المسرود عن ألسنة من عايشها اتكاء على الذاكرة الشفهية، ليتدفق السرد تارة على تخوم التأريخ، وتارة على الخيال الممتزج بالواقع، ليكون محمد ساري حاضرا كمؤرخ يوثق ما حدث، وحكاء يصف المكان والشخوص والانفعالات البشرية والمشاعر المتضادة على مدى أكثر من 350 صفحة و4 أجيال بتوظيف ذكي للخطاب السياسي الشعبوي، ليس خطاب المنابر والبدل، وإنما خطاب البسطاء، الفلاحين الذين لم يذهبوا يوما إلى مدرسة، ولم يلقنوا حب الوطن من كتب التأريخ في المدارس، لكنهم رضعوا عشق الأرض من ثدي حياة عافروا فيها سعيا إلى الاستقلال.
لم يعتمد الكاتب تقنية ضمير المتكلم، أو السارد الأوحد في هذه الرواية، وهي تقنية متعارف عليها بروايات السير، بل انتقى تقنية تعدد الرواة، أي الذات الساردة التي تختلف باختلاف شخوصها، فعلى مدى الرواية يظهر 4 رواة: الأب، الأم، الابن، وابن العم، بالإضافة إلى الحوارات التي رافقت الرواية والمحكية عن لسان أصحابها.
إعلان
سرد العمل كان استذكاريا تراوح بين الحوارات "بين شخصين أو أكثر"، المونولوجات الداخلية وخاصة في فصول الابن، ومنولوجات حوارية "سرد الأب والأم لابنهما"، لنكون أمام نص يزخر بالتنقل الرشيق بين القاصين بلغة كانت رشاقة انتقالها بين مستوى لآخر لا تقل جمالا عن تعدد الرواة.
أمكنة الجزائر
لم تناقش الرواية أزمة الاستعمار الفرنسي للجزائر فقط، وإن كانت هذه الثيمة هي لبنة العمل الأساس، لكنها أيضا تطرقت إلى مواضيع شتى، كدور المرأة في المجتمع الجزائري، فهي الأم المناضلة في المنزل بغياب الأب، وهي أيضا المسعفة في ساحات الحرب. كما طرحت فكرة التعليم وأهميته في بناء الجيل، ليعد الكاتب التعليم نوعا من الجهاد حتى وإن كان المجاهد في السجن. وناقشت الرواية الفروقات الكثيرة بين أهل الريف والمدينة، والتغييرات الديمغرافية التي تقع على المدن بسبب الحرب التي تجبر أبناء الريف على الهجرة إليها؛ مدينة شرشال الجزائرية أنموذجا، إذ يصفها الكاتب بالمدينة "الكوزموبولتين"، مشبها هجرة القبائل إلى المدينة بنوع مختلف من الاستعمار.
ولم تغب شرائح المجتمع المتعددة عن الرواية، والتي بدورها أضفت طابعا خاصا للعمل يكتشف القارئ من خلالها الوضع المأزوم في تلك الفترة، فنتعرف إلى الشامبيط والهيوف والفلاقة والفلاح والمثقف والأمي والمجاهد الخائن والمسجون والإمام؛ والجيل الأول والثاني والثالث والرابع لعائلة البطل.
عنصر المكان لعب دورا مهما في الرواية، ليس فقط على صعيد الوصف والاهتمام بدقائق تفاصيله، سواء كان مكانا خارجيا كوادي عيزر وبركة العروس، أو داخليا كالسجن والمنازل الفقيرة، ولكن أيضا على صعيد الحدث، فنلاحظ كيف أثر المكان على نجاح الكثير من عمليات المجاهدين، فبيئة الجزائر كانت كريمة معهم، مانحة إياهم الكثير من الكهوف والأشجار للاختباء من عين الفرنسي، كما تسرد الرواية بدقة وعورة الأرض هناك ما يصعب انتقالهم من مكان لآخر، ناهيك عن الوصف الأخاذ لبيئة الجزائر من أنهر ووديان وبساتين وحقول ومزارع على مد البصر.
إعلان
إن رواية "نيران وادي عيزر" عمل مهم، استطاع الكاتب من خلاله توجيه رسالة محبة وعرفان لوالديه ولجميع من قدموا التضحيات في سبيل استقلال الأرض. استطاع ساري من خلاله التغلب على نمطية السير الروائية التي تتحول كثيرا إلى توثيق جامد يؤرخ الحدث زمانيا ومكانيا على حساب الداخل الإنساني.
0 تعليق