في زمن تشتد فيه الحاجة إلى تجديد العمل الدعوي وإحياء الرسالة التربوية، يطل علينا كتاب "الملفوظات" للعلامة المجدد الشيخ محمد إلياس الكاندهلوي، رحمه الله تعالى، مؤسس جماعة الدعوة والتبليغ، كأثر علمي وتربوي فريد، ينهل من معين الحكمة الإيمانية، ويرسم معالم منهج دعوي أصيل مستمد من الهدي النبوي.
لقد جاء هذا الإصدار، الذي تولت دار القلم بدمشق طباعته، ليجمع للمرة الأولى بين دفتيه صورة حية عن المنهج الدعوي الذي سلكه هذا الإمام، وذلك من خلال مجموعة من الكلمات والنصائح التربوية المختارة، التي عرفت في تراث الجماعة باسم الملفوظات.
ويكتسب هذا الكتاب قيمته من كونه أول عرض جامع ومنظم لهذه النصوص باللغة العربية، وذلك بترجمة رصينة، وخدمة علمية متقنة، وإخراج فني أنيق، مما يجعله وثيقة دعوية وتاريخية مهمة، تسد فراغا في المكتبة الإسلامية المعاصرة، وتفتح آفاقا لفهم مدرسة دعوية أسهمت في تشكيل الوعي الإيماني والدعوي لدى الملايين.
وقد تولى الشيخ عادل الحرازي اليماني الندوي، أستاذ علوم الحديث في كلية الشريعة بجامعة قطر، الإشراف على الكتاب ومراجعته العلمية واللغوية. والشيخ عادل هو من تلامذة الشيخ أبي الحسن علي الحسني الندوي، رحمه الله، وقد لازمه لسنوات، وانتفع أيضا بعدد من علماء الهند، واليمن، والشام، والحجاز، مما أكسبه أهلية عالية لمعالجة هذا التراث.
إعلان
مقدمات نفيسة
ويزيد من أهمية الكتاب وقيمته المعنوية والعلمية أن افتتح بعدد من المقدمات النفيسة لثلة من كبار العلماء والدعاة المعاصرين، وفي مقدمتهم:
الشيخ العلامة الفقيه المحدث القاضي محمد تقي العثماني، مفتي باكستان وأحد أبرز رموز الفقه المعاصر، والشيخ الدكتور خالد سيف الله الرحماني، الأمين العام للمجمع الفقهي الإسلامي بالهند، والعلامة المؤرخ نور الحسن راشد الكاندهلوي، حفيد الشيخ محمد إلياس، وراوي سيرته، والدكتور أكرم الندوي، الباحث الموسوعي والكاتب المعروف، والشيخ الأديب نعمان الندوي، أحد أبرز رموز البيان الدعوي، والشيخ سجاد النعماني الندوي، نجل العلامة الفقيه المحدث الشيخ منظور النعماني، ومشرف الترجمة، والشيخ مجيب الرحمن الندوي، مترجم الكتاب، والشيخ عادل الحرازي، الذي كتب مقدمة شاملة تعد دراسة تأصيلية في "الملفوظات" ومنهجيته التربوية والدعوية.
تعد هذه المقدمات مدخلا تأصيليا لفهم خلفيات الكتاب وسياقاته الدعوية، كما تبرز العلاقة الروحية والمنهجية الوثيقة بين الشيخ محمد إلياس الكاندهلوي والشيخ أبي الحسن الندوي، ودورهما في إبراز جهد جماعة الدعوة والتبليغ، وتعريف العلماء والدعاة في العالم العربي، وبخاصة في الحجاز، بهذا التيار الدعوي العالمي.
السياق الدعوي والتاريخي للكتاب
ولا تخلو "الملفوظات" من فوائد تربوية وعقدية ودعوية وتاريخية، تجعلها مرجعا أساسيا لكل من يسعى لفهم المنهج الإصلاحي التجديدي في مجال الدعوة، كما تصوره تجربة هذا العالم، الذي أجمع أعلام الهند وكثير من علماء العالم الإسلامي على إمامته وتجديده.
ويعد كتاب "الملفوظات" للشيخ محمد إلياس الكاندهلوي الذي عاش بين عامي (1885م- 1944م)، مؤسس جماعة الدعوة والتبليغ، من الوثائق الفكرية المهمة التي تبرز رؤيته الدعوية وملاحظاته التربوية، والكتاب ليس من تأليف الشيخ، بل هو جمع لأقواله ومجالسه وملاحظاته التي وثقها مريدوه وتلامذته، لا سيما الشيخ محمد منور الذي ينسب إليه حفظ الكثير من تلك المجالس ونقلها، وقد أصبح هذا النص بعد ذلك مصدرا أساسا لفهم المنطلقات الفكرية والتنظيمية للجماعة التي أسسها في الهند في أوائل القرن الـ20.
إعلان
وينحدر الشيخ محمد إلياس من أسرة علمية في منطقة كاندهلة شمال الهند، وتربى في بيئة دينية متأثرة بالمدرسة الديوبندية الإصلاحية، وترافقت نشأته الدعوية مع التحديات الكبرى التي واجهها المسلمون في شبه القارة الهندية، ومنها الاستعمار البريطاني، وفتور الوعي الديني بين عوام المسلمين، والاختراقات الثقافية الغربية.
وقد رأى الشيخ أن إصلاح المسلمين لا يمكن أن يكون عبر التعليم النظامي وحده، بل يحتاج إلى بعث جديد من خلال دعوة الناس إلى أساسيات الدين، بدءا من التوحيد، والعبادات، ومكارم الأخلاق، في إطار عمل شعبي لا مركزي، وحث طلبة الجامعات على العمل في الدعوة لله.
محتوى الكتاب وبنيته
يضم الكتاب جملة من الأقوال والتوجيهات التي تتعلق بالمجالات التالية:
أهمية التوحيد: إذ يصف الشيخ التوحيد الخالص بأنه أساس النجاة، ويربط بين ضعف التوحيد وانحطاط المسلمين. أولوية العلم والعمل: يشدد الشيخ على ضرورة تعلم فروض العين والعمل بها قبل فروض الكفاية، ويركز على البعد العملي لا النظري في الدعوة. الذكر والتقوى: كثيرا ما يحث الشيخ في الملفوظات على كثرة الذكر، وعلى التحلي بالتقوى بصفتها شرطا للقبول عند الله. العمل الجماعي والدعوي: يؤكد الشيخ على أهمية الخروج في سبيل الله، وهي سمة مميزة في جماعة التبليغ، بوصفها وسيلة للتزكية وبث روح الدعوة. التجرد والإخلاص: يوصي الشيخ مرارا بالحذر من الرياء وتجنب الانشغال بالشهرة والجدل.المنهجية الدعوية كما تتجلى في "الملفوظات"
تبرز الملفوظات منهجا دعويا متميزا، يركز على التجوال والخروج وسيلة لقطع التعلقات الدنيوية، وعلى الانخراط في تجربة روحية جماعية، وتعليم العوام بأبسط الوسائل، من خلال النصح المباشر، وتذكير الناس بالمبادئ الإسلامية الأساسية دون تعقيد.
أصبحت الأفكار الواردة في "الملفوظات" لاحقا أساسا في تدريب الدعاة والكوادر في جماعة التبليغ، حتى إن المبادئ الستة الشهيرة للجماعة يمكن تتبع جذورها في هذه الملفوظات، وهي:
إعلان
الكلمة الطيبة (الشهادة)، والصلاة، والعلم والذكر، وإكرام المسلم والإخلاص والنية، والخروج في سبيل الله.
ويركز الكاندهلوي ابتداء على التقيد بالأصول بتصحيح النية والإخلاص وترسيخ الإيمان في القلب، فغاية الدعوة كما يرى أن تصبح أحكام الله تعالى وأوامره هوى الإنسان ورغبته الطبيعية، وتصبح النواهي كريهة له في نفسه، ويرى أن الأذكار وسيلة موصلة لتلك الغاية.
ومما يقوله الشيخ رحمه الله، ويمكن عده مركزيا في فكره: "إن منزلة الفرائض أعلى بكثير من درجة النوافل، بل نعتقد أن المقصود من النوافل هو تكملة الفرائض أو تلافي النقائص التي تحصل في تأدية الفرائض، فالمقصود أن الفرائض أصل توابعها وفروعها، لكن أحوال بعض الناس أنهم لا يهتمون في الفرائض، وينشغلون باهتمام كبير في النوافل، فكما أنكم تعلمون أن الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وجميع شعب التبيلغ من أهم الفرائض، ولكن ما عدد الذين يؤدون هذه الفريضة مقابل المشتغلين والمنهمكين في الأعمال والعبادات والأذكار النفلية، وهم ليسوا بقليل!".
وكان مرتكزه في منهجه الدعوي وترغيبه بالخروج للدعوة سنة رسول الله -عليه الصلاة والسلام- فقد نقل عنه في ملفوظاته تنبيهه أن دعوة رسول الله -عليه الصلاة والسلام- في مكة كانت بالتطواف على الناس ودعوتهم إلى الحق، في حين لم يكن هذا عمله بعد أن وصل إلى المدينة المنورة، بل جعل له فيها مقرا استقر فيه، ولكنه إنما فعل هذا بعد أن هيأ جماعة خاصة تؤدي هذا العمل الدعوي بين الناس بأحسن وجه.
يعد كتاب "الملفوظات" نافذة أساسية لفهم فكر الشيخ محمد إلياس الكاندهلوي، ولفهم التشكل الفكري لحركة الدعوة والتبليغ، إذ يجمع بين بساطة اللغة وعمق الفكرة الدعوية، ورغم أن أسلوبه أقرب إلى المجالس الوعظية، فإنه يبرز ملامح مشروع إصلاحي عملي اتخذ من الدعوة إلى الله منهجا، ومن التزكية الفردية والجماعية وسيلة للتغيير، ولعل هذا الكتاب يستحق إعادة قراءة متأنية في سياق تطورات الحركات الإسلامية المعاصرة، لا سيما تلك التي تدعو إلى العمل الدعوي خارج الأطر السياسية والتنظيمية الصارمة.
إعلان
0 تعليق