غزة- يتساوى الموت مع الحياة لدى الفلسطينية السبعينية جميلة ضاهر، وقد اضطرت لتناول أدوية منتهية الصلاحية، جراء أزمة دواء حادة ناجمة عن منع الاحتلال الإسرائيلي إدخال الإمدادات الطبية والإنسانية لقطاع غزة.
"ما لنا إلا رب العالمين، منذ اندلاع هذه الحرب والموت يعيش بيننا، يرافقنا في خيامنا وشوارعنا، وقد يخطف أرواحنا في أية لحظة، بالقصف أو بالجوع، أو حتى بالأدوية التالفة"، تقول هذه المسنة النازحة للجزيرة نت.
وفي خيمة متهالكة غربي مدينة دير البلح وسط القطاع، تقيم ضاهر (75 عاما) مع عائلتها (14 فردا) منذ نزوحها عن بلدة جباليا شمال القطاع في الأسبوع الأول من اندلاع الحرب الإسرائيلية، عقب هجوم طوفان الأقصى في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023.
جلست ضاهر تستظل بظل هذه الخيمة، هربا من داخلها الذي تحول بوصفها إلى "فرن لا يطاق" من شدة حرارة الشمس اللافحة، وتمسك بطرف ثوبها وتمسح به وجهها والعرق المتصبب من جبينها، وتقول إنها تعاني من أمراض القلب والسكر والضغط، ولا تجد الدواء، ولا تقوى على شراء المتوفر منه في الصيدليات بأسعار مرتفعة.

منتهية الصلاحية
لا يفارق "كيس الأدوية" هذه المرأة، وتشير إليه قائلة "منذ يومين لم أتناول دواء الضغط، ولم أجده في المستشفيات والعيادات والنقاط الطبية، وحتى في الصيدليات التجارية".
ونتيجة ذلك تدهورت الحالة الصحية لهذه السيدة، وتورّمت أطرافها، ووفقا لها فقد أصيبت بـ"مضاعفات في القلب والرئتين، بسبب زيادة المياه في الجسم"، حسب ما أخبرها أطباء في نقطة طبية مجاورة لمخيم النزوح الذي تقيم به.
ولهذه المرأة تجربة أكثر قسوة، حين اضطرت قبل بضعة أسابيع لتناول أدوية خاصة بالقلب والسكر، وكانت منتهية الصلاحية، واستدعى ذلك تحويلها للمستشفى، وتقول "كنت أعلم أن الدواء منتهي الصلاحية، لكن ماذا أفعل؟ قلت في نفسي إن وجوده أفضل من عدمه، وشعرت بعدها بدوار وغثيان".
وكانت هذه المرأة تحصل على أدويتها شهريا وبانتظام من عيادات تابعة لوكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "أونروا"، غير أنها منذ بضعة أشهر تعاني من أجل توفير بعضها من مستشفيات أو نقاط طبية أهلية ودولية.

حصار طبي
الأمر نفسه يعاني منه المريض الستيني سليمان عرفات، الذي تناول أدوية منتهية الصلاحية حصل عليها من مستشفى أهلي، وأصيب على إثرها بحالة تسمم وإسهال وقيء شديد.
إعلان
وفي خيمة مجاورة لضاهر يقيم عرفات (65 عاما) مع أسرته منذ نزوحهم بداية الحرب من "حي الزيتون" جنوب شرقي مدينة غزة، ويقول للجزيرة نت إنه يعاني من أمراض في القلب وضغط والتهابات في الأعصاب.
وكانت مدة صلاحية الدواء الذي تناوله عرفات منتهية منذ 3 أشهر، ويقول إن كثيرا من المرضى يتناولون مثل هذه الأدوية منتهية الصلاحية بسبب عدم توفرها في المستشفيات والصيدليات، نتيجة الحصار وإغلاق المعابر.
ولم يتناول عرفات -منذ فترة لم يحددها بدقة- أدوية مرض الضغط، ويشعر بأن صحته في تدهور مستمر، وقد بدا ذلك واضحا على قسمات وجهه، ومن طريقته في الحديث، والصعوبة التي يواجهها في نطق الكلمات.
ليس لهذا الرجل دخل يعتاش منه، ولا تسمح أوضاعه المادية بالبحث عن الأدوية في الصيدليات التجارية، ويراجع باستمرار عيادات طبية تابعة لأونروا ومستشفيات حكومية ونقاط طبية، وفي كل مرة يجد الإجابة نفسها "غير متوفر وبانتظار فتح المعابر وإدخال الأدوية".

بدورها، تقول المريضة أم ساهر نصار (65 عاما) "الأدوية مقطوعة، وتناولت في الفترة الأخيرة الكثير من الأدوية منتهية الصلاحية، والحمد لله على كل حال".
نصار أكثر حظا من غيرها، ولم تخض تجربة النزوح القاسية، وتقيم مع أسرتها (9 أفراد) في منزلها غربي مدينة دير البلح، لكنها تعاني من أمراض في القلب وضغط ومشكلات بفقرات الظهر، ولا تجد العلاج والأدوية المناسبة.
وتقول للجزيرة نت "كثير من أدوية القلب غير متوفرة، وتناولت دواء لدي منتهي الصلاحية عشان أمشي حالي"، في إشارة منها إلى أنها كانت تعلم أنه منتهي الصلاحية وتناولته مضطرة لتدبر أمرها.
وباستخفاف بالخوف والموت معا، ردت نصار على سؤال الجزيرة نت "ألا تخشين على حياتك؟" دون تلعثم "الأعمار بيد الله، ومررنا بهذه الحرب بكثير من التجارب ورأينا ما لم نره طوال حياتنا، والمكتوب مكتوب".
أرصدة صفرية
تشير بيانات وزارة الصحة إلى أن 47% من قائمة الأدوية الأساسية المتداولة، و65% من المستهلكات الطبية رصيدها صفر.
ويوضح المدير العام للصيدلة في الوزارة الدكتور زكري أبو قمر للجزيرة نت أن "292 صنفا من أصل 622 على قائمة الأدوية الأساسية رصيدها صفر، علاوة على أن 63 صنفا من أصل 174 صنفا من الأدوية المتداولة في خدمة الطوارئ مفقودة تماما، بنسبة تصل إلى 36%".
ونتيجة ذلك عمدت وزارة الصحة إلى "تمديد حياة بعض أصناف الأدوية منتهية الصلاحية"، ويفسر أبو قمر الأمر بأنه "إجراء اضطراري في ظل الأزمة الحادة الناجمة عن تداعيات الحرب والحصار".
ويؤكد أن لجنة متخصصة تابعة لإدارة الجودة بالوزارة تتولى مسؤولية هذا الإجراء، والذي ينسجم مع دساتير الأدوية، ويخضع للفحوص المتخصصة والدراسات الفنية والفيزيائية، قبل إقرار تمديد فترة صلاحية الدواء لفترة معينة، في حين أن هناك أدوية لا يمكن تمديد صلاحيتها لعدم توفر إمكانية إجراء التجارب عليها في القطاع المحاصر.
وتسبق هذه الخطوة –وفقا لأبو قمر- البحث في البدائل، ويقول "إذا كانت البدائل متوفرة فإنها تغني عن تمديد الصلاحية، التي تقتصر على أن تكون كإجراء اضطراري على الأدوية المنقذة للحياة فقط، وليس كل أصناف الأدوية المفقودة".

محددات ونصائح
يؤكد أبو قمر أن هناك الكثير من أصناف الأدوية وبدائلها مفقودة تماما من مخازن وزارة الصحة، ومن المرافق الأهلية والخاصة والصيدليات، وأن "العجز الدوائي غير مسبوق، وزاد الواقع سوءا مع حرمان الاحتلال للقطاع الخاص من استيراد الأدوية منذ اندلاع الحرب، والذي كان يمثل بديلا مهما يخفف الضغط عن المستشفيات والمرافق الحكومية".
إعلان
ويحدد المسؤول الطبي المعايير التي لا يمكن فيها تمديد حياة الدواء، وهي:
أن يكون متوفرا. أن يكون الصنف أساسيا ولكنه غير منقذ للحياة. إذا أثبتت الدراسات الفنية عدم إمكانية تمديده. إذا لم تتوفر دراسات فنية لصنف معين حتى لو كان منقذا للحياة. أي صنف قد يشكل تمديده خطرا على حياة المرضى.ويعد اللجوء لتمديد صلاحية الأدوية "إجراء عالميا" بحسب أبو قمر. ويقول إن الوزارة في غزة تعمل به منذ ما قبل اندلاع الحرب، حيث يعاني القطاع من حصار مشدد منذ عام 2007 انعكس على القطاع الصحي وكل مناحي الحياة، ولكن تضاعف العمل به خلال الحرب الحالية بسبب حدة الأزمة.
ويحذر المسؤول المختص من الاجتهاد الشخصي بهذا الجانب، ويقول "يمنع منعا باتا لأي طبيب أو صيدلي غير مختص بمجال دراسة الأدوية وإجراء الفحوص أن يقرر تمديد حياة أي دواء"، ويضيف أن الوزارة هي المخولة بذلك من خلال لجان متخصصة وبناء على الحاجة المنقذة للحياة، وتوزع هذه الأدوية بعد وضع لاصق جديد عليها يوضح تاريخ صلاحيتها بعد التمديد.
وينبغي على المرضى عدم الاجتهاد الشخصي أو الاعتماد على نصائح من قِبل غير متخصصين وتناول أدوية منتهية الصلاحية، والحرص على التحقق من اللاصق وتاريخ الصلاحية، وفقا للمدير العام للصيدلة في وزارة الصحة.
0 تعليق