د. محمد الصياد*
لقد استغرق الأمر 26 سنة قبل أن تنقلب الولايات المتحدة الأمريكية على الاتفاقية التي صممتها وصاغتها بنفسها ودعت دول العالم قاطبة للاجتماع على أراضيها للاتفاق والتوقيع ثم المصادقة عليها. الأمر يتعلق بالاتفاقية الدولية المتعددة الأطراف الخاصة بإنشاء النظام النقدي العالمي لما بعد الحرب العالمية الثانية، وتقنين الشؤون النقدية التي ستنتظم العلاقات التجارية والاقتصادية عموماً بين الدول الموقعة على الاتفاقية.
حدث ذلك في فندق ماونت واشنطن في منطقة بريتون وودز في الولايات المتحدة في يوليو/تموز 1944، حيث حملت الاتفاقية النقدية العالمية الشهيرة اسم هذه المنطقة التي اجتمع فيها نحو 730 مندوباً يمثلون 44 دولة، وافقوا جميعاً على أن يكون الدولار الأمريكي عملة العملات العالمية، بكل ما تؤديه العملة من وظائف (كأداة دفع وأداة تداول وأداة اكتناز)، على أن يكون الدولار مسنوداً بالذهب ومقوماً على أساس سعر 35 دولاراً للأونصة الواحدة (ما يعادل 0.88867 غرام)، وأن تكون عملات الدول قابلة للتحويل إلى دولار بموجب أسعار صرف ثابتة، مع هامش لا يتجاوز +-1%.
كما شملت الاتفاقية، إنشاء صندوق النقد الدولي ليقوم بوظيفة مراقبة أسعار الصرف، وتقديم القروض للدول التي تعاني من عجز في ميزان مدفوعاتها، وكذلك إنشاء البنك الدولي للإنشاء والتعمير (International Bank for Reconstruction and Development – IBRD) الذي صار اليوم جزءاً من مجموعة البنك الدولي (World Bank Group). ولأن أمريكا كانت تحوز نصف الذهب في العالم (574 مليون أونصة عند نهاية الحرب العالمية الثانية)، فقد أصرت على أن نظام بريتون وودز النقدي العالمي، يجب أن يقوم على أساس الذهب والدولار معاً. لكن هذا الاحتياطي الذهبي تقلص بسرعة حتى وصل إجمالي قيمته في عام 1966، إلى 13.2 مليار دولار قبالة إجمالي ما تجمع من احتياطيات لدى البنوك المركزية غير الأمريكية، الذي بلغ اجماليّه 14 مليار دولار أمريكي.
في 15 أغسطس/آب 1971 صدم الرئيس الأمريكي الراحل ريتشارد نيكسون العالم بقراره فك ارتباط الدولار الأمريكي بالذهب، وفرض رسوم استيراد إضافية بنسبة 10%، لضمان عدم تعرض المنتجات الأمريكية للخطر، بسبب التقلبات المتوقعة في أسعار الصرف، ما أحدث فوضى عارمة في أسواق صرف العملات العالمية، وأفضى في مارس/آذار 1973، إلى تحوّل نظام سعر الصرف الثابت إلى نظام سعر الصرف العائم، وإلى انتهاء العمل، عملياً، بنظام بريتون وودز.
يوم الأربعاء 2 إبريل/نيسان 2025، فاجأ الرئيس الأمريكي دونالد ترامب العالم بحزمة كاسحة من الرسوم الجمركية طالت كل دول العالم وجزره الصغيرة، تراوحت ما بين 34% على الصين و20% على الاتحاد الأوروبي و10% على بعضها الآخر.
كان لهذا القرار الذي تباهى به ترامب وهو يقف وسط إحدى قاعات البيت الأبيض، مفعول الصدمة التي أعادت إلى الأذهان صدمة نيكسون «Nixon shock». صدمة ترامب أحدثت فوضى غير مسبوقة في أسواق المال العالمية، انهارت خلالها مؤشرات البورصات في أمريكا سرعان ما انتقل تأثيرها إلى بقية أسواق المال العالمية.
فكان أن تبادلت واشنطن اللكمات مع بعض بلدان العالم، لاسيما الصين، التي ردت على الرسوم الأمريكية برسوم مضادة، حتى تجاوز سقف الرسوم الجمركية المتبادلة بين واشنطن وبكين حاجز المئة في المئة. صحيح أن ترامب تراجع بعد أسبوع (يوم 9 إبريل 2025) عن إجراءاته، بما في ذلك تراجعه عن الرسوم التي فرضها على السلع الصينية الإلكترونية وأشباه الموصلات، لكن مفعول الصدمة ظل وسيظل باقياً إلى أن تتوصل أمريكا والصين إلى اتفاق بوقف حرب الرسوم الجمركية.
المثير أن أمر انسحاب الولايات المتحدة من النظام التجاري الدولي المتعدد الأطراف المتمثل في منظمة التجارة العالمية (World Trade Organization – WTO)، تطلب مرور فترة مقاربة لتلك التي استغرقها تحللها من أهم ركائز مسؤولياتها التي أخذتها على عاتقها في اتفاقية بريتون وودز، كي تعلن أمريكا انقلابها على ال «WTO» التي قادت عملية التحشيد لإنشائها في جولة المفاوضات الأخيرة (الجولة الثامنة أو جولة أوروغواي التي جرت في إطار إلجات (الاتفاقية العامة للتجارة والتعرفة الجمركية «GATT»). علماً بأن المنظمة مشلولة عملياً منذ عام 2016، نتيجة لعرقلة الولايات المتحدة عشرات المرات طلبات 130 دولة عضوات في المنظمة لملء الشواغر في هيئة الاستئناف التابعة لمنظمة التجارة العالمية، وهي أعلى هيئة قضائية تنفيذية في منظمة التجارة العالمية، ما يثير شكوكاً جدية حول إمكانية إعادة تفعيل هيئة الاستئناف، وترتيباً تفعيل ال «WTO» كمنصة عالمية متعددة الأطراف لتأمين انسيابية التجارة العالمية، وإعادة أجواء الاستثمار العالمية الإيجابية للاقتصاد العالمي.
* خبير بحريني في العلاقات الاقتصادية الدولية
0 تعليق