في مشهد يُعيد إلى الأذهان أشد لحظات الحرب الباردة توتراً، دخل الخطاب بين روسيا والاتحاد الأوروبي مرحلة جديدة من التصعيد، لم تعد فيها العقوبات الاقتصادية وحدها وسيلة الردع، بل امتد الأمر إلى التلويح العلني باستخدام الأسلحة النووية.
وبينما تلوح بروكسل بعقوبات مشددة على خلفية دعم موسكو المتزايد للعمليات العسكرية في أوكرانيا، جاء رد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين سريعا وصادما، معلنا عن اختبار صاروخ باليستي عابر للقارات من طراز "سارمات"، في رسالة حملت أكثر من دلالة عسكرية وسياسية.
الباحث السياسي بسام البني، في حديثه إلى برنامج التاسعة على سكاي نيوز عربية، اعتبر أن إعلان بوتين لم يكن مجرد اختبار تقني، بل رسالة استراتيجية متعددة الأبعاد، مؤكدا أن الصاروخ قادر على حمل رؤوس نووية متعددة ويصل مداه إلى أكثر من 18 ألف كيلومتر، ما يجعله قادرا نظريا على استهداف أي موقع في العالم. وأوضح البني أن الرسالة ليست موجهة لأوكرانيا بشكل مباشر، بل إلى الداعمين الغربيين لها، خصوصا الاتحاد الأوروبي.
وأكد البني أن روسيا لا تسعى لمواجهة شاملة لكنها ترفض ما تعتبره ضغوطا تتجاهل مخاوفها الأمنية، خاصة على حدودها الغربية.
واعتبر أن تهديد موسكو باستخدام صواريخ عابرة للقارات يدخل في إطار ما وصفه بـ"الردع الأقصى"، الذي تسعى من خلاله لإعادة ترسيم الخطوط الحمراء في مواجهة خصومها الدوليين.
وفي سياق متصل، رأى البني أن العقوبات الغربية لم تعد تحدث الأثر المطلوب، بل أصبحت وقودا إضافيا للخطاب التصعيدي الروسي. فبدلا من كبح جماح موسكو، تستخدم العقوبات لتغذية الشعور القومي وتعزيز تماسك الجبهة الداخلية.
وأشار إلى أن الغرب يخطئ حين يعتقد أن روسيا ستتراجع تحت الضغط، مؤكدا أن التاريخ الروسي يظهر ميلا واضحا نحو التشدد عندما تشعر موسكو بأنها محاصرة.
كما أوضح البني أن التلويح المتبادل بين العقوبات من جهة والتصعيد العسكري من جهة أخرى، يكرس نمطا جديدا من العلاقات الدولية، قوامه ما أسماه "الردع النووي اللفظي"، أي استخدام لغة التهديد النووي كأداة دبلوماسية موازية للعقوبات.
ويؤكد البني أن البيئة الاستراتيجية الحالية تختلف كثيرا عن تلك التي عرفها العالم خلال الحرب الباردة، حيث لا يوجد توازن قوى واضح بل شبكة معقدة من التحالفات والانقسامات داخل المعسكر الغربي نفسه.
واعتبر أن بوتين يراهن على هذا التشرذم في أوروبا، ويدرك أن تهديداته لن تقابل برد عسكري موحد، خاصة في ظل الانقسامات داخل حلف الناتو بشأن أوكرانيا.
وفيما يتعلق بفعالية العقوبات الغربية الجديدة، أوضح البني أن التجارب السابقة أثبتت محدودية تأثيرها على القرار الاستراتيجي الروسي.
فموسكو تمكنت من التكيف مع منظومة العقوبات، وأعادت هيكلة اقتصادها، ووسعت شراكاتها مع قوى آسيوية كالصين والهند. رغم ذلك، أقر بأن العقوبات ما تزال تشكل ضغطا على القطاعات التكنولوجية والمالية المتقدمة.
وحول احتمالية تنفيذ التهديدات النووية، اعتبر البني أن هذا النوع من التصعيد يدخل في إطار لعبة الردع المدروسة بدقة. فرغم حدة الخطاب الروسي، فإن بوتين يدرك أن استخدام السلاح النووي سيقود إلى فوضى دولية لا يمكن التحكم بها، ولذلك تبقى التهديدات في إطارها الردعي.
ومع ذلك، حذر من أن الاستمرار في الضغوط السياسية والعقوبات الرمزية قد يدفع روسيا إلى خطوات غير تقليدية، سواء باستخدام أسلحة فرط صوتية أو تكتيكية في مناطق محددة.
واختتم البني مداخلته بالقول إن العالم يدخل مرحلة من "التعايش العدائي"، حيث لا حرب شاملة ولا سلام دائم، بل صراع مستمر تتبدل أدواته. أوروبا ستواصل فرض العقوبات، وروسيا سترد برسائل عسكرية أو رمزية، لكن دون الوصول إلى مواجهة مباشرة.
وأكد أن موسكو تمضي في طريق مزدوج يجمع بين التصعيد المحسوب والردع الاستراتيجي، في حين تواجه أوروبا تحديا متزايدا في الحفاظ على وحدتها في ظل ما تعتبره تهديدا روسيا متناميا.
أما الولايات المتحدة، فتظل اللاعب الحاسم في موازين القوة، وسط تساؤلات كبرى حول مستقبل النظام الدولي وما إذا كانت لغة الصواريخ ستكسر حلقة العقوبات، أم أن الردع اللفظي سيظل السلاح المفضل في معركة النفوذ المقبلة.
أخبار متعلقة :