الإعلان المفاجئ، الذي جاء خلال كلمته أمام منتدى الاستثمار السعودي الأميركي، يطرح تساؤلات جوهرية حول مستقبل هذا البلد الذي مزقته الحرب. فهل يكون هذا القرار بمثابة "مفتاح للبناء" الحقيقي، الذي سيفتح صفحة جديدة لسوريا ويُمكّنها من طي صفحة الماضي المؤلم والانطلاق في رحلة إعادة الإعمار؟ أم أنه مجرد "وهم" لن يغير من واقع التحديات الهائلة التي تواجه البلاد؟
لطالما شكلت العقوبات قيوداً ثقيلة على الاقتصاد السوري، إذ عطلت المشاريع الاستثمارية الكبرى وأثقلت كاهل الشعب، وفاقمت معاناة القطاعات الحيوية. ومع رفع هذه العقوبات، يرى خبراء أن الفرصة قد سنحت "لكسر قيود الماضي"، واستغلال طاقات سوريا الكامنة في سبيل بناء مستقبل مختلف. لكن التساؤل الأهم يبقى: هل سيكون رفع العقوبات وحده كافياً لتحرير هذه الطاقات؟ أم أن النجاح في استثمار هذه الخطوة يتطلب إصلاحات داخلية جذرية ومناخاً مستقراً سياسياً وأمنياً واقتصادياً؟
خطوة أميركية غير مسبوقة
قال الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، أمام منتدى الاستثمار السعودي الأميركي، إنه سيعلن رفع العقوبات عن سوريا حتى يمنحها "فرصة الازدهار". وأضاف ترامب: "تلك العقوبات كانت تشل الاقتصاد السوري وكانت مطلوبة في وقت سابق، والآن آن الأوان كي تلمع سوريا".
وتابع: "سعيد أن أعلن أن ماركو روبيو سيلتقي نظيره السوري في وقت لاحق هذا الأسبوع"، مشيراً إلى أن "إدارتي اتخذت الخطوة الأولى لتطبيع العلاقات مع سوريا".
وختم ترامب بالقول: "هناك حكومة جديدة نأمل أن تنجح... أقول حظاً سعيداً يا سوريا. أرونا شيئاً خاصاً".
دمشق ترحب... ومؤشرات على انفتاح سياسي
ورحب وزير الخارجية السوري، أسعد الشيباني، بإعلان ترامب، معتبراً أنه "نقطة تحول محورية للشعب السوري بعد حرب مدمرة دامت سنوات". وبحسب وكالة "رويترز" أكد الشيباني أن سوريا تنظر إلى القرار بإيجابية كبيرة، وأنها مستعدة لتعزيز العلاقات مع الولايات المتحدة على أساس "الاحترام والثقة المتبادلة والمصالح المشتركة".
وأضاف أن "ترامب قادر على تحقيق اتفاق سلام تاريخي يحقق انتصاراً للمصالح الأميركية في سوريا، ويساهم في استقرار المنطقة بأسرها".
وجاء إعلان الرئيس الأميركي في أعقاب تحولات سياسية داخلية شهدتها البلاد، أبرزها سقوط نظام بشار الأسد. ووفقاً لتصريحات ترامب، فإن هذا التوجه يأتي انطلاقاً من رغبة الولايات المتحدة في "منحهم بداية جديدة" ومساعدتهم، مشيراً إلى أن هذا الموضوع كان محل طلب من الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لبحثه. هذه الخطوة تعكس تحولاً في التعاطي الأميركي مع الملف السوري بعد التغيير في السلطة، حيث كانت العقوبات في السابق أداة للضغط على نظام الأسد.
وفرضت الولايات المتحدة العديد من العقوبات على سورية، وبحسب تقرير نشرته شبكة "سي إن بي سي" الأميركية تم تصنيف سوريا كدولة راعية للإرهاب من قبل الحكومة الأميركية منذ عام 1979. وفرضت الولايات المتحدة عقوبات إضافية على البلاد في عام 2004 ومرة أخرى في عام 2011، بعد أن شن نظام الرئيس آنذاك بشار الأسد حملة قمع وحشية ضد الانتفاضات المناهضة للحكومة".
وكانت الولايات المتحدة أصدرت في يناير الماضي إعفاء لمدة ستة أشهر من بعض العقوبات لتشجيع المساعدات لكن تأثير هذا الإجراء كان محدوداً، بحسب رويترز، التي ذكرت في مارس الماضي بأن واشنطن ستمدد هذا التعليق لمدة عامين إذا جرت تلبية جميع المطالب الأمريكية وربما تصدر إعفاء آخر.
مرونة وسط العقوبات... وتطلعات لما بعد رفعها
في سياق الحديث عن تداعيات القرار الجديد، قال الخبير الاقتصادي الدكتور مازن ديروان، المستشار الأول لوزير الاقتصاد والصناعة السوري، في تصريح خاص لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية"، إن رفع العقوبات "يشكل فرصة كبيرة لتوسيع نطاق المشاريع الاستثمارية، لا سيما الكبرى منها، التي كانت الأكثر تضرراً من القيود الأميركية خلال السنوات الماضية".
وأوضح الدكتور ديروان أن العقوبات "كانت تؤثر بشكل كبير على التحويلات المالية والمشاريع الضخمة الضرورية لإعادة الإعمار، لكنها لم توقف عجلة الاقتصاد السوري بشكل كامل، ولا سيما في قطاع المشاريع الصغيرة والمتوسطة".
وأكد الدكتور ديروان أن ما يقارب 90 بالمئة من الاقتصاد السوري يعتمد على هذه المشاريع الصغيرة والمتوسطة، التي أثبتت مرونتها وقدرتها على التكيف في أحلك الظروف، حيث استطاع أصحابها خلال السنوات الماضية تأمين المواد الأولية والآلات اللازمة للإنتاج، رغم القيود المفروضة.
وشدد على أن الرغبة في العمل والتطوير كانت ولا تزال أقوى من كل التحديات، وأن العقوبات – رغم إزعاجها وتأثيرها في بعض الأحيان على تدفق المدفوعات – لم تُثنِ من يملك الإرادة عن مواصلة العمل.
وأشار إلى أن رفع العقوبات، من شأنه أن يسهم في تسهيل عمليات إعادة الإعمار وتوسيع نطاق المشاريع الاستثمارية الكبرى، لكنه ليس وحده كافياً لنهضة شاملة ما لم يترافق مع إصلاحات داخلية.
وختم ديروان تصريحه قائلاً: "عندما تكون في القاع، أي طريق هو نحو الأعلى. لكن المهم أن نمتلك الشجاعة والإرادة للقفز إلى الأعلى بأقصى سرعة وأكبر قوة ممكنة. الأهم من كل ذلك هو أن يشعر المواطن والمستثمر بالحرية والطمأنينة على حياته وماله، لأن ذلك هو أساس أي نهوض اقتصادي حقيقي".
رفع العقوبات يخرج سوريا من "السجن الاقتصادي" ويفتح الباب لنهضة شاملة
بدوره، قال المستشار الاقتصادي الدكتور أسامة القاضي في حديثه لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية" إن رفع العقوبات الاقتصادية، ولا سيما عن المصرف المركزي السوري، يمثّل تحولاً جذرياً في المشهد الاقتصادي، إذ يعني انضمام سوريا مجدداً إلى منظومة التحويلات المالية العالمية (سويفت)، ما يتيح للشركات العالمية إمكانية فتح حسابات مصرفية داخل سوريا وتحويل الأموال إليها، ومن ثم الانطلاق بورش عمل ضخمة في مختلف القطاعات، من العقارات والصناعة إلى السياحة والطب والزراعة والتكنولوجيا والتعليم".
وأوضح القاضي أن هذه الخطوة تمهّد لخلق فرص عمل واسعة للسوريين، وتسهّل تدفق الأموال دون المخاطرة أو التردد من قبل المستثمرين الدوليين، الذين طالما تجنّبوا السوق السورية بسبب العقوبات الأميركية الصارمة. وأضاف: "هذا التطور يعني خروج سوريا من السجن الاقتصادي الذي ظلت مأسورة فيه لعقود، منذ تصنيفها كدولة راعية للإرهاب عام 1979، ثم صدور قانون محاسبة سوريا عام 2004، وتوالي العقوبات الغربية، بما فيها قانون الكبتاغون، الذي ألحق أضراراً بالغة بسمعة البلاد وأعاق تدفق الاستثمارات".
وأكد الدكتور القاضي أن زوال العقوبات يفتح الباب أمام انطلاقة اقتصادية حقيقية، ويمنح البلاد فرصة جديدة لتأسيس شراكات دولية وبناء اقتصاد حديث.
كما أشار إلى أن دخول شركات التطوير العقاري الكبرى سيسهم في عودة السوريين إلى بيوتهم ومحافظاتهم، مع ما يرافق ذلك من فرص عمل واسعة في مختلف التخصصات، وارتفاع الطلب على مواد البناء والعمالة المهنية، وتنشيط الأسواق وقطاع النقل.
وختم المستشار الاقتصادي القاضي بأن سوريا ستكون خلال الأعوام العشرة المقبلة ورشة عمل عملاقة، تمضي بثبات نحو التعافي، وتلتحق بركب الدول الناهضة، لتأخذ مكانها من جديد ضمن منظومة العولمة الاقتصادية العالمية.
قرار رفع العقوبات هو الاستقلال الاقتصادي لسوريا
من جانبه، قال الباحث الاقتصادي المختص بالشأن السوري عصام تيزيني في حديثه لموقع اقتصاد سكاي نيوز عربية": "إن قرار رفع العقوبات الأميركية عن سوريا يمثل لحظة تاريخية بمثابة (استقلال اقتصادي) وتحرر من قيود الحصار الذي كبل البلاد منذ عام 1979، عندما عُزلت عن النظام المالي العالمي وأُلحقت ضمن منظومة اقتصادية مغلقة ومتأخرة.
وأكد تيزيني أن هذا القرار يشكل المفتاح الذهبي الذي ستفتح به سوريا أبواب النهوض والبناء الاقتصادي الحقيقي، وليس الوهمي، معتبراً أن صدور القرار عن زعيم أكبر اقتصاد في العالم، وفي توقيت لم يكن يتوقعه حتى أكثر المتفائلين، يعكس اعترافاً دولياً صريحاً بأن سوريا الجديدة مرشحة للعب دور محوري في مستقبل الاقتصاد الإقليمي.
وأضاف أن قرار الإدارة الأميركية سيقلب المعادلة الاستثمارية في سوريا رأساً على عقب، حيث ستُفتح الأبواب أمام رؤوس الأموال من مختلف أنحاء العالم، بما في ذلك مستثمرون عرب وغربيون وسوريون مغتربون طالما انتظروا لحظة الانفتاح للعودة بأموالهم ومشاريعهم.
وأشار الباحث الاقتصادي تيزيني إلى أن هذا التطور أغلق الباب أمام المشككين الذين سعوا لزرع الإحباط في المجتمع الاقتصادي السوري. وختم بالقول: "سوريا الجديدة ستكون وجهة استثمارية محورية، وستختصر الزمن اللازم لإعادة الإعمار إلى أقل من عشر سنوات، مستفيدة من طاقات بشرية مبدعة، وشركاء دوليين كبار، وأجواء اقتصادية أكثر تحرراً وانفتاحاً".
عودة سوريا للمجتمع الدولي مفتاح النهضة الاقتصادية والاجتماعية
وكان وزير الاقتصاد والصناعة السوري الدكتور نضال الشعار قال في مقابلة متلفزة عقب إعلان ترامب: "لقد بدأت سوريا بمرحلة جديدة، وسنُجنّد كل ما لدينا من طاقات وقدرات وإرادة لإطلاق مسار نهضة شاملة تعيد سوريا إلى موقعها الطبيعي ضمن المجتمع الدولي، الذي غابت عنه طويلاً. لقد عادت سوريا بكامل طاقاتها، سواء كانت داخلية أم خارجية، وعادت أيضاً بكل أصدقائها من الأشقاء العرب والدول الغربية، وكل من يحرص على دعمها يجد أبوابها مفتوحة من جديد".
وأضاف الشعار: "لدينا اليوم إمكانات أكبر مما كانت عليه سابقاً لاستيعاب التحول الأميركي. لدينا حكومة جديدة بطاقاتها وكوادرها، والمستثمرون جاهزون، والشعب يتمتع بمستوى غير مسبوق من الراحة النفسية. سنبدأ نهضة سوريا من نقطة الانطلاق الأساسية وهي المواطن السوري، الذي طالما حلم بهذه اللحظة، حلم بعودة بلاده إلى المجتمع الدولي، لأن هذه العودة تشكل المفتاح الحقيقي لأي نهضة اقتصادية أو اجتماعية أو سياسية. لا يمكن لأي دولة أن تنطلق نحو المستقبل ما لم تفتح أبوابها للعالم"
وأكد الوزير أن قرار رفع العقوبات يشمل كل الوزارات والقطاعات الاقتصادية، ما يتطلب الحذر والدقة في وضع خطة مدروسة ومتكاملة، بالتنسيق مع الجانب الأميركي، لضمان تنفيذ ناجح وفعّال لهذا التحول التاريخي.
وأوضح الشعار أن "إزالة اسم سوريا من لوائح نظام التحويلات المصرفية العالمية (سويفت) سيكون بمثابة نقطة التحول الفعلية، حيث ستبدأ التدفقات المالية بالوصول من المستثمرين السوريين في الخارج والمغتربين. حينها ستدور عجلة الاقتصاد من جديد، وستتحقق الوعود الاستثمارية، وتبدأ حركة المستثمرين نحو سوريا دون قيود أو عوائق. هذا الانفتاح سينعكس مباشرة على المواطن السوري، سواء من خلال الشعور بالأمان الاقتصادي، أو عبر تدفق رؤوس الأموال والاستثمارات، وسهولة التحويلات المالية".
أخبار متعلقة :