لم يكن منتظرًا أن تنهي قمة ألاسكا بين الرئيس الأميركي دونالد ترامب والروسي فلاديمير بوتين الحرب الأوكرانية بين ليلة وضحاها، لكنها كانت اختبارًا مهمًا لنوايا الطرفين وفرصة لإعادة فتح قنوات الحوار.
وبعد ساعات من محادثات وصفتها الوفود بأنها إيجابية من حيث الشكل، لكن غامضة من حيث المضمون، خرج بوتين بمقترح بدا للوهلة الأولى غير متوازن: انسحاب أوكرانيا من إقليم دونيتسك مقابل تجميد خطوط القتال في خيرسون وزابوريجيا، مع تقديم تعهد مكتوب بعدم مهاجمة أوكرانيا أو أي دولة أوروبية مستقبلًا.
المبادرة الروسية أثارت جدلًا واسعًا، إذ اعتبرها البعض خطوة لكسر الجمود وإطلاق مسار دبلوماسي، بينما رآها آخرون فخًا سياسيًا يهدف إلى تثبيت واقع السيطرة ومنح روسيا شرعية غير مستحقة لمكاسبها العسكرية.
كييف: "لا تنازلات تحت النار"
الموقف الأوكراني جاء حاسمًا وسريعًا. الرئيس فولوديمير زيلينسكي رفض المقترح الروسي بشكل قاطع، مؤكدًا أن بلاده لن تتنازل عن دونيتسك ولن تعترف بأي ضم لأراضيها.
وأضاف أن أي مفاوضات لا يمكن أن تبدأ قبل وقف إطلاق النار بشكل كامل.
مستشار الرئاسة سيرغي ليشينكو عبّر عن هذا الموقف بلغة واضحة حين قال: "لا يمكن التفاوض بينما القصف مستمر، وأي محاولة لذلك هي ابتزاز سياسي." هذه العبارة لخصت رؤية كييف بأن موسكو تحاول استخدام المفاوضات أداة للضغط بينما تواصل هجماتها.
بالنسبة لأوكرانيا، المعادلة واضحة: لا تنازل تحت النار، ولا اتفاق يقيد قدرتها على الدفاع أو يفرض عليها حدودًا جديدة بالقوة. وفي ظل إدراك زيلينسكي لحساسية الرأي العام الداخلي، فإن أي خطوة قد تُفسَّر كخيانة وطنية ستكون كارثية على مستقبله السياسي.
المواقف الأوروبية بدت أكثر توازنًا لكنها مشوبة بالقلق. فالاتحاد الأوروبي رحّب مبدئيًا بأي محاولة لفتح نافذة سلام، لكنه شدد على شروط أساسية: مشاركة أوكرانيا بشكل مباشر في أي اتفاق، عدم الاعتراف بضم الأراضي، وضمان ألا تفرض التسوية قيودًا على الجيش الأوكراني أو على مساعي كييف للانضمام إلى الناتو والاتحاد الأوروبي.
برزت في بعض العواصم الأوروبية فكرة عقد قمة ثلاثية تضم ترامب وبوتين وزيلينسكي، باعتبارها الطريق العملي الوحيد إذا كان الهدف التوصل إلى تسوية قابلة للحياة. لكن هذه الفكرة ظلت في إطار التداول ولم تتحول إلى مبادرة رسمية.
مبادرة ترامب: ضمانات أمنية جديدة
من جانبه، حاول ترامب أن يطرح نفسه كوسيط قادر على صياغة قواعد أمنية جديدة. فقد دعا إلى إنشاء نظام ضمانات يشبه المادة الخامسة لحلف الناتو، بحيث يُعتبر أي هجوم على أوكرانيا اعتداءً على الولايات المتحدة والدول الأوروبية الضامنة ويستوجب ردًا جماعيًا.
لكن تفاصيل المبادرة ظلت غامضة. هل تشمل تدخلًا عسكريًا مباشرًا في حال تجدد العدوان الروسي؟ أم تقتصر على الدعم السياسي والاقتصادي؟ الأوروبيون أبدوا ترحيبًا حذرًا بالفكرة، لكنهم طالبوا بتوضيحات، خاصة أن أي التزام أمني بهذا الحجم سيعني عمليًا توسيع دائرة الصراع.
قراءة أوكرانية داخلية: بين الإيجابية والواقعية
في حديثه إلى برنامج "التاسعة" على قناة سكاي نيوز عربية، قدّم عماد أبو الرب، رئيس المركز الأوكراني للتواصل والحوار، قراءة عن القمة.
ورأى أبو الرب أن مجرد انعقاد اللقاء يشكل خطوة إيجابية في حد ذاته، موضحًا: "مجرد جلوس الأطراف الكبرى إلى طاولة واحدة واعتراف روسيا عمليًا بأنها تحتاج إلى صفقة، يمثل تطورًا مهمًا لا ينبغي التقليل من قيمته."
لكنه شدد على أن أي تسوية واقعية يجب أن تقوم على ثلاث ركائز مترابطة:
1. "رفض الاعتراف بضم الأراضي المحتلة."
2. "الحصول على ضمانات أمنية معتبرة تحمي أوكرانيا ولا تقيّد قدراتها الدفاعية."
3. "صياغة اتفاق لا يعزل كييف عن العالم ولا يُستخدم كورقة ابتزاز."
وأضاف أبو الرب أن الدستور الأوكراني لا يمنح الرئيس صلاحية التنازل عن الأراضي، معتبرًا أن أي اتفاق يتجاوز هذا السقف سيكون غير دستوري وغير قابل للتنفيذ.
وقال في هذا السياق: "البديل الواقعي هو الاعتراف بوجود احتلال مؤقت والعمل على احتوائه دبلوماسيًا، لا شرعنته أو قبوله كأمر دائم."
بريطانيا: دعم حذر ولكن ثابت
الموقف البريطاني أعلنه رئيس الوزراء كير ستارمر، الذي أكد استعداد لندن لدعم أي صيغة تضمن أمن أوكرانيا وتوقف القتال. وأوضح أن التحركات الأمبركية والأوروبية تشكل فرصة ينبغي البناء عليها، مع التمسك في الوقت ذاته بمبدأ عدم الاعتراف بتغيير الحدود بالقوة.
يكشف المشهد العام أن قمة ألاسكا لم تكن سوى بداية لمسار طويل مليء بالعقبات. بوتين حاول اختبار الغرب بطرح معادلة تثبت مكاسبه الميدانية، بينما ترامب أراد أن يبرز كوسيط قادر على صياغة نظام أمني جديد يكرّس عودته إلى الساحة الدولية. أما أوروبا، فاختارت السير بين خطين: الانفتاح على أي مبادرة دبلوماسية، والتمسك بالثوابت القانونية والسياسية.
في المقابل، يواجه زيلينسكي تحديًا مزدوجًا: الحفاظ على وحدة الموقف الداخلي الرافض لأي تنازلات، وفي الوقت نفسه البحث عن أي فرصة لالتقاط الأنفاس في حرب تستنزف موارده وشعبه وجيشه يومًا بعد يوم.
مشهد مفتوح بلا نهاية قريبة
الحرب الأوكرانية دخلت عامها الثالث، وما زالت بعيدة عن نهايتها. قمة ألاسكا لم تفتح الباب على مصراعيه لكنها لم تغلقه أيضًا. ما تحقق حتى الآن هو إعادة إطلاق محادثات، اختبار للحدود الممكنة، وتأكيد أن أي اتفاق لا يمكن أن يُفرض على كييف من الخارج.
المرحلة المقبلة ستشهد على الأرجح المزيد من جولات التفاوض غير المباشر، وربما لقاءات إضافية بين الأطراف. لكن حتى الآن، يبدو أن الجميع في مرحلة "جس نبض"، أكثر من الدخول في تسوية شاملة. فالتناقضات بين ما تريده موسكو وما يمكن لكييف قبوله، وبين ما يسعى الغرب لتثبيته وما يخشى التفريط فيه، تجعل الطريق إلى السلام أطول وأكثر تعقيدًا مما توحي به الابتسامات أمام الكاميرات.
أخبار متعلقة :