في مشهد دولي يتقاطع فيه التصعيد العسكري مع الحسابات الجيوسياسية المعقدة، أقدمت الولايات المتحدة على تنفيذ ضربات جوية استهدفت ثلاث منشآت نووية إيرانية، في سابقة غير معهودة منذ توقيع الاتفاق النووي في 2015. وبينما تصف واشنطن العملية بأنها "وقائية"، ترى طهران فيها إعلان حرب غير مباشر.
هذا التقرير يقدم قراءة تحليلية معمقة لمجريات الضربة، وردود الفعل الإقليمية والدولية، وسيناريوهات ما بعد الضربة.
الضربات الأميركية: تكتيك استباقي ورسائل استراتيجية
وفقًا لتقارير رسمية واستقصائية، استخدمت القوات الأميركية ست قنابل خارقة للتحصينات من طراز GBU-57، استهدفت منشأة "فوردو"، إلى جانب إطلاق ثلاثين صاروخ توماهوك من غواصات باتجاه منشأتي "نطنز" و"أصفهان".
الخبير العسكري عبد الجبار العكيدي شدد على أن نوعية الأسلحة المستخدمة لا تترك مجالا للشك في أن العملية كانت محسوبة بدقة، قائلاً: "هذه القنابل قادرة على اختراق عشرات الأمتار من الخرسانة، واستخدامها يشي برسالة واضحة مفادها: واشنطن دخلت مرحلة فرض الإرادة بالقوة".
وأوضح أن ضرب منشأة مثل "فوردو" المحصنة تحت الجبال يمثل استهدافًا مباشرًا لأعصاب البرنامج النووي الإيراني.
الرواية الإيرانية: نفي تقني وتحدٍ سياسي
وكالة الأنباء الإيرانية الرسمية حاولت التقليل من شأن الضربة، مؤكدة أن المنشآت كانت فارغة من المواد المشعة، وأنها أُخليت مسبقًا. كما أعلنت هيئة الطاقة الذرية الإيرانية أن الهجمات "لن تعيق مواصلة الأنشطة النووية".
غير أن العكيدي يشكك في هذه السردية، معتبرًا أن طبيعة الانفجارات وحجمها لا يتوافقان مع رواية "الأثر المحدود".
وأضاف: "ربما تكون المواقع المستهدفة نُقلت سابقًا أو تم تعزيزها هندسيًا، لكن من غير المنطقي أن تمر هجمات كهذه دون أثر فعلي على البنية النووية".
ترامب: التلويح بالقوة من أجل مفاوضات مشروطة
الرئيس الأميركي دونالد ترامب وصف الهجوم بأنه ضربة "وقائية" ضرورية لردع تهديد نووي وشيك، لكنه أبدى انفتاحًا على العودة للمفاوضات بشرط وقف تخصيب اليورانيوم. في تصريحات لاحقة، قال ترامب إن "أميركا لا تريد حربًا، لكنها لن تتردد في الدفاع عن أمنها وأمن حلفائها".
مراسلنا مجدي يازجي أفاد بأن أسباب الضربة تعود إلى فشل وساطة تركية أوروبية لإطلاق محادثات مباشرة، حيث رفضت طهران تقديم ضمانات بعدم التخصيب، ورفضت لقاءً رفيع المستوى كان سيُعقد في أنقرة. وأشار إلى أن ترامب حصل على دعم جمهوري شبه كامل، بينما انتقده الديمقراطيون بسبب تجاوز الكونغرس.
التقارير تشير إلى أن الضربة نُفذت بتنسيق استخباراتي وتخطيطي مع إسرائيل، التي اعتبرت العملية "خطوة نوعية" نحو إنهاء ما تصفه بـ"الخطر الإيراني الوجودي". وظهر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في مؤتمر صحفي ليؤكد أن العملية تمثل تنفيذًا لتعهداته "بمنع إيران من امتلاك سلاح نووي مهما كلف الثمن".
الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش وصف التطورات بأنها "تصعيد مقلق" يهدد الاستقرار في الشرق الأوسط، ودعا جميع الأطراف إلى ضبط النفس والعودة للالتزام بالاتفاقات الدولية.
ردود فعل أوروبية تراوحت بين التحذير من انهيار الاتفاق النووي، والدعوة لإحياء مسار فيينا بشروط جديدة. بينما أبدت الصين وروسيا تحفظًا على "الانفراد الأميركي بالقرار العسكري".
هل أرادت واشنطن التفاوض أم فرض الاستسلام؟
الباحث في العلاقات الدولية علي شكر يرى خلال حديث لسكاي نيوز عربية أن العملية لم تكن عرضًا للسلام، بل أقرب إلى "محاولة فرض استسلام سياسي" على إيران.
وقال: "واشنطن تعرف أن طهران لن تقبل بشروط تخل بكرامتها النووية والسيادية، لذا فإن ما حدث هو فرض أمر واقع بالقوة".
ويضيف شكر أن الضربة لم تستهدف فقط البنية النووية بل الرسالة السياسية الإيرانية، معتبرًا أن مشاركة إسرائيل زادت من تعقيد المشهد وأحرجت حلفاء واشنطن العرب.
من جهته، أوضح محمد المصري، مدير المركز الفلسطيني للبحوث والدراسات، أن "العملية جزء من نظرية ترامب في تحقيق السلام من خلال الضغط الشامل". وقال إن "ما لا تفهمه الإدارة الأميركية هو أن المشروع النووي الإيراني ليس فقط بنية تحتية بل مشروع وطني يشارك فيه عشرات الآلاف من العلماء ويصعب تفكيكه بضربة واحدة".
أستاذ العلوم السياسية في جامعة جورج واشنطن، ريتشارد تشاسدس، يرى أن الرد الإيراني قد لا يكون مباشرًا، بل يتخذ طابعًا غير تقليدي: "الرد قد يأتي على شكل هجمات سيبرانية، أو عبر وكلاء مثل الحوثيين أو حزب الله، أو حتى عمليات بحرية في مضيق هرمز".
ويؤكد أن "إيران معتادة على امتصاص الصدمات الأولى قبل الرد بحذر محسوب، لذلك فإن أي هجوم مضاد سيكون مدروسًا لتجنب مواجهة شاملة لا تملك طهران استعدادًا لها حاليًا".
ثلاثة سيناريوهات: حسابات الرد وتكلفة الانكفاء
أمام إيران الآن ثلاث مسارات رئيسية:
1. الرد العسكري المباشر: خيار محفوف بالمخاطر، إذ سيُفسر كتصعيد يبرر ضربة أميركية ثانية.
2. الرد غير المباشر: عبر أذرع إقليمية وعمليات غير منسوبة رسميًا لطهران.
3. ضبط النفس المؤقت: انتظار رد الفعل الدولي وقياس حجم الأضرار قبل اتخاذ القرار.
كل سيناريو يفرض على طهران حسابات دقيقة بين الكرامة الوطنية، والضغوط الاقتصادية، وموازين الردع.
في ضوء التصعيد الأميركي، والتريث الإيراني، تدخل الأزمة النووية منعطفًا حاسمًا. فإما أن تفتح الضربة بابًا لمفاوضات أكثر تعقيدًا، أو تجر المنطقة إلى مواجهة طويلة الأمد. وبين هذين الخيارين، يبقى ميزان القوة هشًا، مرهونًا بقرارات معقدة تتخذ في غرف مغلقة، بينما يراقب العالم لحظة الحقيقة في صراع الشرق الأوسط الأكثر توترًا منذ سنوات.
أخبار متعلقة :