تحل اليوم ذكرى وفاة رائد الكوميديا العربية، الفنان الكبير نجيب الريحاني، الذي غادر دنيانا في 8 يونيو 1949، لكن ظله لا يزال حاضرًا، وأعماله تواصل العيش بيننا، ضاحكة تارة، وباكية تارة أخرى. ففي زمن لا يُنصف الكثير من المبدعين، يبقى الريحاني حالة فنية نادرة، أكّدت بما لا يدع مجالاً للشك أن الفن الحقيقي لا يموت أبدًا.
من باب الشعرية إلى قلوب الملايين
وُلد نجيب إلياس ريحانة في حي باب الشعرية بالقاهرة، لأب عراقي وأم مصرية، في عام 1889. عُرف عنه منذ صغره عشقه للفن، ورغم عمله في وظائف تقليدية، لم يتخلَّ عن حلمه. في وقت كان المسرح فيه يعاني من الارتجال والسطحية، جاء الريحاني ليصنع ثورة في فن الكوميديا، مقدّمًا شخصيات من لحم ودم، تُشبه المواطن البسيط، وتُعبّر عن آلامه وتضحكاته.
كوميديا بطعم الوعي
أسس الريحاني فرقة مسرحية رائدة بالاشتراك مع الكاتب بديع خيري، وقدما سويًا أعمالًا لا تزال محفوظة في ذاكرة المسرح العربي مثل كشكش بيه، حسن ومرقص وكوهين، والدنيا على كف عفريت. كان أسلوبه في الكوميديا يقوم على النقد الاجتماعي اللاذع المغلف بالسخرية الذكية، بعيدًا عن الابتذال.
لقد كان أول من آمن بأن الضحك الحقيقي لا يأتي من "النكتة"، بل من وجع حقيقي يُعرض بصدق فني.
السينما تحتفظ بروحه
برغم قصر رحلته السينمائية، ترك لنا نجيب الريحاني أعمالًا خالدة، على رأسها فيلم غزل البنات، الذي توفي قبل أن يُعرض في دور السينما. ما زال مشهده الشهير مع ليلى مراد وموسيقاه مع عبد الوهاب، يُبكينا ويضحكنا في آن. إنها مشاهد تُعيدنا للزمن الجميل، وتؤكد أن الريحاني كان فنانًا يسبق عصره.
"أنا مش كافر... بس الجوع كافر"
هذه العبارة التي نطق بها في أحد أعماله، تلخص فلسفة نجيب الريحاني. لم يكن يطمح للشهرة أو الثراء، بل أراد أن يُغيّر شيئًا في وعي الناس. أن يجعل من المسرح منصة للكرامة، ومن السينما مرآة للناس.
رسالة خالدة عبر الأجيال
ما يميّز نجيب الريحاني أنه ظل حيًا في وجدان الناس رغم وفاته قبل أكثر من 75 عامًا. فالأجيال الجديدة لا تزال تضحك على كلماته، وتتعلم من فنه. وقد صار "كشكش بيه" و"أبو حلموس" جزءًا من ذاكرتنا الجماعية، تمامًا كما صار هو نموذجًا للفنان الأصيل، الذي خُلِّد بفنه لا بأضوائه.
الفن لا يموت
نجيب الريحاني لم يكن مجرد فنان، بل كان مدرسة. علمنا أن الضحك يمكن أن يكون مقاومة، وأن الفن الحقيقي هو الذي يعبر عن الناس، ويعيش معهم. وفي ذكرى وفاته، نرفع له القبعة، ونهمس له بصوت كل محبيه:
"أنت لم تمت يا نجيب بل حي في كل ضحكة صادقة، وكل مشهد خالد، وكل فنان صادق."
أخبار متعلقة :