لم يسبق أن واجه الدولار الأميركي هذا الكم من التحديات المتزامنة منذ عقود؛ فبعد أن تَرسّخت هيمنته على النظام المالي العالمي عقب الحرب العالمية الثانية، بدأت ملامح التراجع تلوح في الأفق. ورغم أنه لا يزال يتربع على عرش العملات الاحتياطية، إلا أن الضغوط المتراكمة باتت تهدد مكانته التاريخية.
التقلبات الجيوسياسية، والحروب التجارية، وتنامي مساعي الاقتصادات الناشئة لبناء بدائل نقدية، كلها عوامل أعادت فتح النقاش حول مستقبل "العملة الخضراء". وبينما يرى البعض أن قوة المؤسسات الأميركية تجعل من الصعب إزاحته، يعتقد آخرون بأن الاعتماد المفرط على الدولار كسلاح اقتصادي قد يسرّع وتيرة البحث عن بدائل.
في خضم هذه التحولات، يبقى السؤال المحوري: هل دخل الدولار مرحلة انحسار تدريجي لدوره المهيمن، أم أن الضغوط الراهنة لا تعدو كونها عابرة ضمن دورة طبيعية للاقتصاد العالمي؟ فيما تظل الإجابة مرهونة بمسار الأحداث المقبلة، لكنها تكشف بوضوح عن اهتزاز الثقة التي طالما شكلت الدعامة الأهم لسطوة العملة الأميركية.
هيمنة الدولار
ويشير تقرير لـ "بلومبيرغ" إلى أن مساعي الرئيس دونالد ترامب لإعادة تصميم النظام الاقتصادي العالمي لصالح الولايات المتحدة "تهز أحد أسس هيمنتها بعد الحرب العالمية الثانية" الدور الذي لا جدال فيه للدولار كعملة احتياطية عالمية.
الدولار يُستخدم في حوالي 9 من كل 10 معاملات صرف أجنبي. كما تستخدم العملة الأميركية في حوالي نصف تجارة السلع العالمية. يشكل الدولار ما يقرب من 60 بالمئة من احتياطيات الحكومات حول العالم. تُساعد هذه الهيمنة واشنطن على إدارة عجز الموازنة الهائل، وتُمكّن المستهلكين الأميركيين من إنفاق أكثر مما يجنون، وكل ذلك بتمويل من مستثمرين أجانب يتوقون إلى اقتناص الأصول المقومة بالدولار الأميركي.ويضيف التقرير: "لكن الثقة بالدولار تتراجع.. في العام 2022 حفّزت القيود التي فرضتها إدارة بايدن على وصول روسيا إلى العملة بعد بدء الحرب في أوكرانيا، جولة أولى من التنويع".
ومؤخراً، أدى الطرح العشوائي لحملة ترامب على الرسوم الجمركية في أبريل وتراجعها عنها إلى ضعف نادر في قيمة كل من الدولار وسندات الخزانة الأميركية. وانخفض مؤشر الدولار الأميركي بأكثر من 10 بالمئة في الأشهر الستة الأولى من العام، وهو أسوأ أداء له في النصف الأول منذ العام 1973.
وتبعاً لذلك، تشهد البنوك والوسطاء طلباً متزايداً على منتجات العملات التي تتجاوز الدولار، كما أن بعض أغنى العائلات في آسيا تُقلل من تعرضها للأصول الأميركية، زاعمين أن رسوم ترامب الجمركية جعلت البلاد أقل قابلية للتنبؤ.
يأتي ذلك بينما يواصل الخصوم الجيوسياسيون داخل مجموعة البريكس سعيهم الدؤوب نحو نظام مدفوعاتٍ جديد عبر الحدود. حتى الحلفاء القدامى، مثل أوروبا، يرون فرصةً لتقويض هيمنة الدولار، وفق التقرير.
ضبابية
يقول رئيس قسم الأسواق العالمية في شركة Cedra Markets، جو يرق، لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية" إن:
ما يقوم به الرئيس الأميركي دونالد ترامب من فرض رسوم جمركية وشن حرب تجارية قد خلق حالة من الضبابية وأثار مخاوف المستثمرين بشأن مستقبل التجارة العالمية. أن الرسوم التي فرضها ترامب تُعد الأعلى تاريخياً، إذ ارتفع متوسطها إلى ما بين 17 و18 بالمئة مقارنة بـ2.5 بالمئة فقط على مستوى دول العالم مجتمعة. هذه الإجراءات أحدثت تغييراً في نظام التجارة العالمية وقد تنعكس سلباً على النظام المالي الدولي.ويضيف: الدولار الأميركي كان من أبرز المتضررين؛ إذ فقد جزءاً من صفته كملاذ آمن وخسر أكثر من 10 بالمئة من قيمته هذا العام، الأمر الذي انعكس على مكانته وهيمنته العالمية. وفي المقابل، شهدت عملات أخرى محاولات لأداء دور الملاذ الآمن، مثل الفرنك السويسري والين الياباني، بينما ارتفع اليورو بنحو 13 بالمئة خلال هذا العام في ظل تعافي الاقتصاد الأوروبي.
ويشير إلى أن الصين تعمل منذ سنوات على تعزيز مكانة اليوان كعملة احتياطية عالمية، لافتاً إلى أن التراجع في هيمنة الدولار ليس وليد اليوم، بل نتيجة تراكم المخاوف من العقوبات الأميركية المفروضة بشكل متكرر على دول مثل روسيا والصين وإيران، ما دفع هذه الدول إلى تقليل اعتمادها على الأدوات والمنتجات المالية المرتبطة بالدولار.
ويختتم رئيس قسم الأسواق العالمية في شركة Cedra Markets حديثه قائلاً: "حصة الدولار من احتياطيات البنوك المركزية العالمية تراجعت خلال العشرين عاماً الماضية بنحو 15 بالمئة، ومع مرور الوقت سيزداد الضغط على العملة الأميركية، التي وإن لم تفقد بالكامل صفتها كملاذ آمن، إلا أنها ستتخلى تدريجياً عن جزء منها".
التخلي عن الدولار
وبحسب تقرير سابق لصحيفة "الغارديان" البريطانية، فإن المستثمرين يبيعون العملة الأميركية بسبب المخاوف من أن تهدد سياسات ترامب الاقتصادية دور الملاذ الآمن للأصول المقومة بالدولار الأميركي، حيث يتوقع خبراء الاقتصاد أن قانون الميزانية "الجميل الكبير" سيدفع الدين الوطني الأميركي إلى الارتفاع أكثر.
وقال محللون في يونيكريديت: "الدولار الأميركي هو الخاسر الأبرز حتى الآن هذا العام، حيث خسر نحو 10 بالمئة من قيمته مقابل العملات الأخرى، في وقت أثرت فيه مخاوف المستثمرين بشأن سياسات ترامب على العملة الأميركية".
وأوضح كبير محللي السوق في شركة الخدمات المالية تريد نيشن، ديفيد موريسون أن "الرسوم الجمركية التي فرضها ترامب، وحقيقة أن العديد من المستثمرين ينظرون إلى إدارته على أنها فوضوية إلى حد ما، إلى جانب المخاوف بشأن الدين الوطني الأميركي، أدت إلى فقدان الدولار الزخم".
كما أثرت التوقعات المتزايدة بخفض أسعار الفائدة في الولايات المتحدة على الدولار، حيث انتقد ترامب مرارا وتكرارا رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي، جيروم باول، لعدم خفض تكاليف الاقتراض وألمح إلى أن بديل باول سيدفع باتجاه خفض أسعار الفائدة وقد يتم تعيينه في وقت مبكر.
آثار متفاوتة
ويشير رئيس قسم الأسواق المالية في شركة FXPro، ميشال صليبي، لدى حديثه مع موقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية"، إلى أن "الإجراءات التي يتبعها الرئيس الأميركي دونالد ترامب في معاركه، سواء على الصعيد السياسي وفي الحروب التجارية وفرض التعرفات الجمركية، قد تترك آثاراً متفاوتة على الدولار الأميركي على المديين القصير والمتوسط والطويل".
على المدى القصير، عادةً ما تعزز هذه الإجراءات قوة الدولار، حيث يبقى الطلب على العملة الأميركية مرتبطًا بالتجارة العالمية والأسواق المالية في الولايات المتحدة. لكن التحدي الأكبر يظهر على المديين المتوسط والطويل، إذ إن الإفراط في استخدام الدولار كسلاح -سواء عبر العقوبات أو تجميد الاحتياطات أو غيرها من الإجراءات - قد يدفع بعض الدول المتضررة إلى تسريع جهودها لتنويع احتياطاتها أو السعي نحو إنشاء عملات بديلة، رغم صعوبة ذلك، أو اللجوء إلى التحوط بشراء أصول مالية أخرى.ويضيف: "إذا أضفنا إلى ذلك التحديات المتزايدة أمام الدولار كعملة تسوية رئيسية، خصوصاً في قطاع الطاقة، إلى جانب تسارع الاتفاقات الثنائية بين الدول الناشئة بالعملات المحلية، وكذلك صعود الذهب كخيار احتياطي لدى البنوك المركزية، فإن كل ذلك يشكل ضغوطاً إضافية على مكانة الدولار عالمياً".
ومع ذلك، لا يرى صليبي أن هذه التطورات ستقود إلى انهيار الدولار الأميركي؛ إذ لا يزال يمثل ما بين 52 إلى 60 بالمئة من الاحتياطيات العالمية (..) لكن من المؤكد أن الضغوط السلبية على العملة ستتزايد مع مرور الوقت، رغم أن قوة المؤسسات المالية الأميركية وسوق السندات ما زالت تمنح الدولار ميزة شبكة شبه احتكارية.. ومع ذلك، فإن تدفق المزيد من الأموال نحو خارج الأسواق المالية الأميركية يبقى أمراً مرجحاً في المستقبل".
0 تعليق