في خضم تصدع النظام الدولي التقليدي وتصاعد التوترات الجيوسياسية، تقف روسيا والصين على خط مواجهة مباشر مع النظام العالمي الذي قادته الولايات المتحدة لعقود.
هذا التحول لا يأتي فقط كرد فعل على ضغوط غربية متصاعدة، بل يعبر عن مشروع استراتيجي عميق لإعادة تشكيل موازين القوى الدولية. ففي الوقت الذي تشهد فيه العواصم الغربية انقسامات داخلية متسارعة، تتجه موسكو وبكين نحو بناء محور استراتيجي متماسك يتجاوز مجرد التنسيق الثنائي إلى ما يشبه التحدي الصريح للنموذج الليبرالي الغربي.
صعود الشراكة الشرقية.. من التفاهم إلى التحدي
يبدو أن ما يجمع موسكو وبكين لم يعد يقتصر على ملفات آنية، بل يرتكز على أسس استراتيجية راسخة. اعتبر أستاذ العلوم السياسية في جامعة سيفاستوبول، عمار قناة، خلال حديثه إلى غرفة الأخبار على "سكاي نيوز عربية"، أن "ما نراه ليس مجرد رسالة سياسية مؤقتة، بل استمرارية لعلاقة استراتيجية تعمقت في السنوات الأخيرة"، مشيرا إلى أن التعاون الروسي الصيني لم يُبَن كرد فعل مباشر على سياسات الغرب، بل جاء في إطار مشروع أوسع لإعادة صياغة العلاقات الدولية.
وأضاف: "هذه التحالفات لا تُبنى ضد الغرب ككيان موحد، لأن الغرب ذاته اليوم لم يعد كما كان قبل سنوات.. نشهد انقسامات واضحة داخل الكتلة الغربية بين بروكسل وواشنطن، والسبب لا يقتصر على مسائل اقتصادية، بل يتعداها إلى اهتزاز في المظلة الأمنية الأمريكية فوق أوروبا".
في هذا السياق، تبدو الصين وروسيا وكأنهما تعيدان رسم خرائط النفوذ، لا فقط عبر الخطابات السياسية، بل من خلال مشاريع متكاملة كـ"مبادرة الحزام والطريق"، التي وصفها قناة بأنها تعكس "تحولا جوهريا من المعادلات البحرية التي كانت تخضع للهيمنة الأميركية، إلى معادلات برية تقلص من نفوذ واشنطن الاقتصادي والعسكري".
الرد الجيوسياسي على العقوبات والابتزاز
العقوبات الغربية التي فرضت على روسيا منذ اندلاع الحرب في أوكرانيا، كانت بمثابة محفز إضافي لتعزيز التحالف مع الصين. وكما أشار قناة، فإن "روسيا استطاعت الحفاظ على منظومتها الاقتصادية بدرجة كبيرة من خلال الدعم الصيني، سواء عبر الاستثمارات أو من خلال التعاون في سوق الطاقة والتجارة الثنائية بالعملات المحلية، ما شكّل تحديًا مباشرا للدولار كأداة للابتزاز السياسي".
والأكثر دلالة في حديث قناة هو تركيزه على أن "الولايات المتحدة نفسها كانت سببا في تعزيز هذا التقارب"، مشيرا إلى أن إدارة الرئيس السابق جو بايدن "دفعت بهذه العلاقة إلى مستوى غير مسبوق من التفاهم الاستراتيجي، من خلال ممارساتها العقابية والعزلية".
ويرى عمار قناة أن المرحلة الراهنة تشهد نهاية "الأحادية القطبية"، مع انتقال تدريجي نحو "نظام دولي متعدد الأقطاب" تقوده تكتلات ناشئة تحاول إعادة التوازن إلى العلاقات الدولية.
ويُضيف: "نحن أمام نظام لا يسعى إلى استبعاد الغرب بالكامل، بل إلى كسر هيمنته. الصين وروسيا لا ترفضان التعاون، لكنهما ترفضان الإذعان لمعايير الغرب الإيديولوجية"، في إشارة إلى ما وصفه بـ"إيديولوجيا مرفوضة تحاول فرضها النخب الغربية عبر الأدوات الاقتصادية والمؤسسات الدولية".
ويتابع: "حتى مصطلحات النظام الدولي تغيرت، فبدلا من الحديث عن دول العالم الثالث، أصبحنا نسمع بمصطلح 'دول الجنوب العالمي'، في تعبير عن هوية جيوسياسية جديدة تسعى هذه الدول لتأكيدها بعيدًا عن تصنيفات الحرب الباردة".
لم يغفل حديث عمّار قناة الإشارة إلى الوضع الأمريكي الداخلي، حيث وصف الاقتصاد الأميركي بأنه "في حالة تضاؤل حقيقي"، مشيرًا إلى أن "الدولار لم يعد يحظى بذات الهيمنة التي امتلكها سابقا، بل أصبح أداة سياسية تفقد فعاليتها تدريجيا مع تنامي التبادلات التجارية بين دول الشرق بعملات غير الدولار".
هل نحن أمام لحظة تحوّل تاريخي؟
التحالف الروسي الصيني ليس مجرّد تنسيق عابر، بل يمثل محاولة واعية ومنظمة لإعادة تشكيل المشهد العالمي.
وكما أشار عمار قناة، فإن ما نشهده هو جزء من انتقال حتمي من نظام دولي مركزي خاضع للغرب إلى منظومة متعددة الأقطاب تحاكي التوازن لا الهيمنة، وتعيد تعريف مفاهيم الأمن، والنفوذ، وحتى التنمية.
0 تعليق