في خضم التوترات المتسارعة في الشرق الأوسط، تعود أزمة الملف النووي الإيراني لتتصدّر مشهد الأزمات الإقليمية والدولية، محمّلة هذه المرة بمؤشرات خطيرة قد تدفع نحو صدام عسكري مباشر.
فإيران تواصل رفع نسب تخصيب اليورانيوم، متحدية بذلك المجتمع الدولي، في حين تكثف إسرائيل من تهديداتها العسكرية، وسط صمت أميركي يوحي بعدم رضا كامل، وتدخل روسي حذر يراهن على التهدئة.
وتشير المعطيات الواردة من الوكالة الدولية للطاقة الذرية إلى أن إيران باتت تخصّب اليورانيوم بنسبة تصل إلى 60 بالمئة، وهي نسبة تلامس العتبة التقنية التي تتيح التحول السريع إلى تصنيع سلاح نووي، رغم إصرار طهران على سلمية برنامجها، مستندة إلى "فتوى" أصدرها المرشد الإيراني علي خامنئي تحرم إنتاج السلاح النووي.
لكن الباحث في "مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات" في واشنطن، حسين عبد الحسين، يرى خلال حديثه الى برنامج "التاسعة" على "سكاي نيوز عربية" أن إيران لا تتصرف بنية "السلم النووي" إطلاقًا، وإنما تدير برنامجها كجزء من استراتيجية الردع والاستنزاف.
ويضيف: "إيران لا تسعى بالضرورة لامتلاك سلاح نووي على الفور، لكنها تقترب منه بشكل يتيح لها التهديد بامتلاكه عند الحاجة. هي تسعى للوصول إلى العتبة النووية فقط، وهي وضعية تمنحها القدرة على الضغط دون الانخراط في صدام مباشر".
ويتابع عبد الحسين: "السلوك الإيراني يُظهر أنها تراهن على الوقت، وعلى التراخي الدولي، وعلى انشغال واشنطن بالحرب في أوكرانيا والانتخابات الرئاسية المقبلة. هذا يمنحها هامش مناورة كبيرًا دون دفع كلفة سياسية كبيرة".
إسرائيل.. رسائل نارية وتحضيرات ما قبل المواجهة
في مقابل التصعيد الإيراني، تتعالى نبرة التهديدات الإسرائيلية، التي ترى أن إيران تقترب من الخطوط الحمراء. فالمستوى السياسي والعسكري في تل أبيب يؤكد بشكل متكرر أن "الخيار العسكري على الطاولة"، بل إن تقارير استخباراتية إسرائيلية أشارت إلى أن المؤسسة الأمنية الإسرائيلية وضعت خططًا جاهزة لضرب المنشآت النووية الإيرانية في حال لم يتحرك المجتمع الدولي.
لكن هل إسرائيل مستعدة فعلاً لتنفيذ هذه التهديدات؟ يجيب عبد الحسين قائلا: "نعم، إسرائيل تأخذ هذا الملف على محمل الجد، لكنها تعلم أن أي عمل عسكري ضد إيران لن يكون سهلا أو محدودا. الإيرانيون راكموا خبرة في تخزين أجهزتهم الحساسة تحت الأرض، ونقلها، وحمايتها بطبقات من الدفاعات الجوية".
ويتابع: "لكن في المقابل، إسرائيل تراهن على قدرتها التقنية، وعلى دعم أميركي غير معلن، في تنفيذ عملية نوعية قد لا تدمر البرنامج كليا، لكنها تعيده سنوات إلى الوراء".
ويرى عبد الحسين أن تلويح إسرائيل بالخيار العسكري لا يهدف فقط للردع، بل أيضا لإيجاد حالة ضغط دولي تعيد ملف إيران النووي إلى سلم أولويات المجتمع الدولي، وتدفع واشنطن إلى موقف أكثر تشددا.
هل تريد إيران فعلا الضربة العسكرية؟
في تحليل غير تقليدي، يطرح حسين عبد الحسين فرضية لافتة: أن إيران قد تفضّل ضربة عسكرية محدودة على تقديم تنازلات في مشروعها النووي.
ويقول: "إيران ليست منزعجة بالضرورة من احتمال ضربة إسرائيلية. فهي قد تستخدمها لكسب التعاطف الدولي، وتبرير تسريع برنامجها النووي، وربما حتى الخروج من معاهدة حظر الانتشار النووي (NPT)".
ويضيف: "من وجهة نظر طهران، فإن تلقي ضربة إسرائيلية محدودة، يمكن أن يسبب شعورا بالضحية لدى الرأي العام المحلي والدولي، ويحولها من متهمة إلى معتدى عليها".
هذا الطرح، وإن بدا متشائما، يعكس فهما عميقا لعقلية النظام الإيراني، الذي اعتاد استثمار الأزمات لكسب نفوذ استراتيجي وتبرير تشدد داخلي، بل وتصفية خصومه تحت يافطة "الوحدة في مواجهة العدو الخارجي".
أين واشنطن من كل هذا؟
تبدو الإدارة الأميركية، برئاسة دونالد ترامب، منشغلة في ملفات داخلية وتحولات دولية أخرى. ولا تبدي واشنطن حتى الآن حماسة واضحة للعودة إلى اتفاق نووي جديد مع إيران، ولا لدعم ضربة إسرائيلية معلنة.
ويشرح عبد الحسين هذا الغياب النسبي بقوله: "واشنطن لا تريد اتفاقا جديدا مع إيران، لكنها أيضا لا ترغب في اندلاع حرب شاملة في المنطقة الآن. هناك حسابات انتخابية، وهناك رغبة في إبقاء إيران تحت الضغط دون التورط عسكريا".
ويضيف: "أميركا تراقب ما يجري، وتستخدم ورقة العقوبات الاقتصادية وأذرعها في مجلس الأمن، لكنها غير مستعدة حتى اللحظة للمضي في حسم عسكري، إلا إذا تجاوزت إيران الخط النووي الأخير".
المعادلة الروسية.. حليف إيران.. ومنافس الغرب
أما روسيا، التي ترتبط بعلاقات اقتصادية وسياسية وثيقة بطهران، فتبدو في موقف معقد. فهي لا ترغب في رؤية إيران تملك سلاحا نوويا، لأنه يخل بتوازنات القوى، لكن في الوقت ذاته، تريدها قوية بما يكفي لتعطيل النفوذ الأميركي في المنطقة.
ويؤكد عبد الحسين على هذه النقطة: "روسيا تستخدم إيران كورقة في مواجهة الغرب، لكنها لا تريد أن تصبح عبئا نوويا عليها. لذلك تدفع باتجاه الحوار، وتضغط بهدوء على طهران لإبداء بعض المرونة".
سيناريوهات المرحلة المقبلة
يقدّم عبد الحسين تقييمًا واقعيًا لكنه مقلق، قائلا إن المنطقة تدخل في مرحلة اختبار الإرادات، وإنه من غير المستبعد أن نشهد ضربة إسرائيلية محدودة خلال الشهور المقبلة، خصوصًا إذا واصلت إيران التخصيب بوتيرة تصعيدية.
ويختتم حديثه قائلا: "السباق الآن بين التخصيب والضربة. وكلما اقتربت إيران من التخصيب العسكري، اقتربت إسرائيل من الضربة الوقائية".
ويقف العالم أمام سباق مع الزمن في التعامل مع طموحات إيران النووية، وسط غياب حل دبلوماسي مستدام، وانقسام دولي حول سبل الرد.
فالتصعيد المتبادل، وإن كان حتى الآن ضمن قواعد الاشتباك غير المعلنة، إلا أنه ينذر بتحوّل مفاجئ، قد يقود إلى حرب إقليمية محدودة أو حتى تفلت شامل للأوضاع.
الرهان على الدبلوماسية بات هشا، وردع إيران يضعف كلما تزايد تخصيبها، وفي المقابل، تلويح إسرائيل بالخيار العسكري، وإن كان واقعيًا، إلا أنه يحمل مجازفة كبيرة. في نهاية المطاف، إما اتفاق جديد يعيد الجميع إلى طاولة المفاوضات، أو ضربة تقلب قواعد اللعبة.
0 تعليق