في تقرير موسع نشرته صحيفة "إزفيستيا" الروسية، تناول الكاتب غريغوري لوكيانوف، الباحث في معهد الدراسات الشرقية التابع لأكاديمية العلوم الروسية، تصاعد التوترات الأمنية في العصمة الليبية طرابلس، محاولا توضيح أسبابها وخلفياتها السياسية والأمنية.
وقال الكاتب إن المعطيات الميدانية تشير إلى أن هذه العملية كانت عملية عسكرية منظمة تهدف إلى إعادة هيكلة القوى الأمنية في العاصمة لصالح حكومة الوحدة الوطنية برئاسة عبد الحميد الدبيبة، رغم الطابع العشوائي الظاهري للاشتباكات.
وأشار إلى أن الشرارة التي أطلقت التصعيد كانت مقتل القائد الميداني عبد الغني الككلي المعروف بـ"غنيوة"، وهو شخصية بارزة توّلت قيادة "جهاز دعم الاستقرار" ومنصب رئيس جهاز الأمن التابع للمجلس الرئاسي.
عملية مدبرة
وذكر أن المعلومات تشير إلى أن مقتله كان نتيجة عملية مدبرة، حيث تم استدعاؤه إلى اجتماع رسمي في مقر اللواء 444، ثم تمت تصفيته. وأدى ذلك إلى انهيار معنوي وتنظيمي في صفوف أتباعه.
وعُرف عن الككلي تعقيد علاقاته مع وزارة الداخلية والدائرة المحيطة بالدبيبة، حيث كان يدير فعليا "جيشا خاصا" يخدم مصالحه ومصالح حلفائه داخل أجهزة الدولة، إلى جانب سيطرته على موارد اقتصادية من خلال التهريب والاقتصاد الموازي.
إعلان
كما اتُّهم الككلي بتعطيل مساعي توحيد الهياكل الأمنية، والانخراط في صراعات على النفوذ داخل مصرف ليبيا المركزي.
وأشار لوكيانوف إلى أن السنوات الأخيرة شهدت محاولات من حكومة الوحدة الوطنية للحد من استقلالية المليشيات ودمجها ضمن بنية الدولة.
ومن أبرز هذه المحاولات تعيين عماد الطرابلسي، وهو شخصية قادمة من التشكيلات المسلحة، وزيرا للداخلية. وسعى الطرابلسي إلى تنفيذ سياسة أمنية مركزية، شملت استعادة السيطرة على المعابر الحدودية مع تونس، مما حرم الجماعات المسلحة من مصدر دخل ثابت عبر تهريب الوقود والسلع.
كما أدى الدعم الأوروبي، وخصوصا الإيطالي، إلى تقليص دور المليشيات في ملف الهجرة غير النظامية عبر إعادة توجيه العوائد واللوجستيات إلى مجموعات موالية للدبيبة.
تمت بسلاسة
ويشير الكاتب إلى أن عملية السيطرة على "جهاز دعم الاستقرار" تمت بسلاسة نسبية، مع انسحاب معظم قادة الجهاز المقربين من الككلي من طرابلس دون مقاومة، مما يعكس حجم الترتيبات المسبقة.
ويرى لوكيانوف أن مقتل الككلي والسيطرة على تشكيلاته المسلحة يمثّلان جزءا من عملية أوسع لإعادة رسم خريطة النفوذ في طرابلس.
وأوضح أن التشكيلات المسلحة التابعة للككلي كانت تتكون في معظمها من أبناء منطقة أبو سليم، وكانت تستخدم لمواجهة "نفوذ مصراتة" المتصاعد في أجهزة الدولة، خاصة منذ تولي عبد الحميد الدبيبة -وهو من مدينة مصراتة- رئاسة الحكومة في عام 2021.
أهمية شمالي غربي ليبيا
وقال: رغم استمرار انقسام ليبيا بين الغرب والشرق، مع بقاء الشرق والجنوب تحت سيطرة قوات اللواء المتقاعد خليفة حفتر، فإن الدبيبة يسعى إلى توحيد الأراضي شمالي غربي البلد، التي يقطنها أكثر من ثلاثة أرباع سكان ليبيا، عبر خطوات تدريجية.
ويشير التقرير إلى أن هذه الإستراتيجية ترتكز على تقويض سلطة المليشيات، وتعزيز المؤسسات الرسمية، والتقليل من النفوذ الأجنبي.
إعلان
وتناول التقرير أيضا تفاعل القوى الإقليمية والدولية مع الأزمة الليبية. فبينما ركزت الجزائر وتونس على حماية حدودهما المشتركة من تداعيات الفوضى الليبية، اختارت دول أخرى، كإيطاليا وتركيا، التوغل في مفاصل الإدارة والاقتصاد الليبيين.
وعلى سبيل المثال، عقدت إيطاليا اتفاقيات مع مليشيات محلية للحد من الهجرة، لكنها عمليا غذت تجارة البشر التي أصبحت مصدر دخل رئيسي لبعض التشكيلات.
مخاطر استمرار المليشيات
ويرى الكاتب أن استمرار ضعف مؤسسات الدولة، وحرية حركة المليشيات، والفساد المستشري، كلها أمور تسببت في انهيار الوضع المعيشي وتراجع الأمن المجتمعي وتآكل البيئة الاستثمارية، كما أتاح هذا الوضع مجالا واسعا لتدخل القوى الخارجية، مما أضعف السيادة الليبية.
وأوضح أيضا أن تقوية الحكومة وتقليص نفوذ المليشيات قد يضعفان تدريجيا الحاجة إلى وصاية خارجية، وهو ما لا تفضله بعض الأطراف الدولية ذات المصالح المتضخمة في الداخل الليبي، إلا أن سياسة الدبيبة تنسجم نسبيا مع مصالح بعض اللاعبين الدوليين.
ويمضي الكاتب ليقول إن المليشيات المسلحة لا تمثل فقط تهديدا داخليا لأمن الدولة الليبية، بل هي أدوات فعالة بيد قوى خارجية تسعى لتشكيل المشهد السياسي في ليبيا حسب مصالحها.
ويختم بالقول إن تفكيك هذه المليشيات أو إخراجها من اللعبة السياسية لن يكون سهلا أو سريعا، بل سيتطلب جهودا منهجية طويلة الأمد، وتوازنا دقيقا بين الداخل والخارج.
أخبار متعلقة :