الكويت الاخباري

دردشة مع الكاتب القصصي يحيى صافي: قلت لك .. سأشتري فرساً - الكويت الاخباري

 

حاوره زياد خداش:

 

لن تتعب وأنت تبحث عن يحيى صافي في الأردن، اصعد إلى جبل اللويبدة، ابحث عن مقهى (دالي) نادِ بصوت خفيض يشبه الهمس: يحيىىىىىىىىىىىىىىىىىىىىىىىىىىىىىى، ستنتبه إلى خمسيني طويل، يقف أمامك، بسيجارة في فمه لا تنطفئ وكأس خروب في يده لا يفرغ، لديه حاسة سمع رهيبة، وحتى تتأكد أنه هو، انظر قامته، هو نحيل جدا إلى حد أنك إذا قبّلته على خديه وهذا سيحدث فهو دافئ مثل ملاك، يقبل الأغراب قبل المعارف والأصدقاء، فستشعر أنك تقبّل عظمتين بارزتين، لكن صاحب هاتين العظمتين لديه حس إنساني لن تخطئه، في قصصه ستقرأ شخصيات لم تتخيل أنها ستنقل على صفحات كاتب، قدرته على فهم الإنسان وتناقضاته وبؤسه وجماله الداخلي لن تجدها عند قصاصين آخرين بنفس المستوى من الدموع والحميمية، قصص صافي تلقى تفاعلا كبيرا على الفيسبوك، سمعت بأذني أشخاصا يوقفونه في الشارع: "إنت يحيى صافي الكاتب اللي ساكن في مخيم البقعة"؟.. هذه دردشة مع صاحب العظمتين والقلب الكبير.

* أنت لاجئ من يافا إلى مخيم البقعة وتعيش في اللويبدة، إلى أي حد تسمح مساحة الحلم داخلك بوجود بحر يافا قرب بيتك المستأجر في اللوبيدة؟
- لا أعرف حقيقة كيف أحلم ببحر يافا سواء في المخيم، أو في مسكني الدائم بجبل اللويبدة، هل يمكن لبحر يافا أن يزورني، سواء على سطوح بيت أهلي في المخيم، أو قرب بيتي بجبل اللويبدة.. هنا، أفتح النافذة صباحاً وأنا أرى جموع السوريين العائدين للشام، ربما أحلم بأن تلك الحافلات سوف تأخذنا في رحلة مدرسية لبحر يافا القريب من حلمي، أذكر مرة أفقت من النوم، فجراً، أفقت مرعوباً، كنت في الحلم أجلس متربعاً على مساحة واسعة جداً كما لو أني دخلت خارطة "غوغل" تماماً.. كنت أمام بحر يافا، وكنت إذا نظرت نحو الشمال أرى عكا ببحرها وسورها، ومبانيها العتيقة، وكنت إذا نظرت صوب الجنوب أرى غزة بكامل عزلتها، كان هذا قبل كسر عزلتها بنوافير الدم، والأشلاء المقطعة بأعوام.. كان فجر بحر يافا المتوسطي أزرق شاحبا، وكانت رائحته في الحلم تشبه عصير البرتقال، هل شممت يوماً رائحة البحر في الحلم يا زياد؟.. أفقت مفزوعاً على أضواء ساطعة أعمتني، كانت من قوتها تشبه أضواء حفلات "الروك أند رول"، كانت أضواء لسيارات عسكرية، ورجال يشحذون السكاكين، نهضت وأخذت أركض صوب البحر، وكانت سيارات الجيش والرجال الذين يشحذون السكاكين يركضون خلفي، وهناك صوت يشبه صوت المرحوم أبي.. كان يقول لي اركض، اركض، اركض.. نصل السكاكين يغوي حاملها.. أفقت وريقي مثل حطبة.. هذه المرة الوحيدة التي أفقت فيها من الحلم، ورأيت يافا وعكا وغزة قرب حلمي، وليس قرب بيتي.

* من المحتمل أن تعود إلى يافا يا يحيى، إن عدت، هل يعود نصك كما هو الآن؟ هل تغيرنا عودتنا إلى الأصل بعد طول انقطاع؟
- احتمالية العودة تقترب عندي من الحتمية، بل ربما هي حتمية تاريخية، وحقيقية مثل الوشم البديع على ذقن أمي صفية، ذلك الذي وشموه لها وهي صغيرة الغجر العابرين بحر يافا نحو القرى المنثورة على ساحلها، دعنا نطلق عنان الخيال، فالخيال مسرح الحالمين، لما أعود لبحر يافا، وتحديدا شط "إجليل القبلية" سوف أشتري فرسا، وسوف أبحث على طول الساحل عن "وسم خيل" أجدادي، لقد كانوا يملكون وسماً لأعرق الخيول العربية الأصيلة، وسوف أطلب من الفرس أن تعلمني الكتابة عن البحر، فالبحر والخيل توأما الخيال، والحلم أيضاً، سوف أطلب من نجوم البحر أن تصحح لغتي، وسوف أطلب من الرمل، رمل البحر، أن يعيد تشكيل المباني والمعاني في نصي السردي.. هذا أكيد.

* شخوصك غالبا من ذاكرة المخيم ومكانك الأثير هو المخيم، وإن خرجت فأنت تخرج إلى الحب، هذا المزج المثير بين المخيم والحب في عالمك الفني هو برأيي ما يميز تفردك. لكني لاحظت أن الحب حين أقاربه يخرج من المخيم إلى اللوبيدة، لماذا؟
- لا يوجد في جبل اللويبدة للأسف مزاريب كي أقف تحتها في ليالي الشتاء الباردة وانتظر حبيبة تطل من سطوح أهلها كما كان يحدث لي في المخيم، كانت مياه المزاريب إثبات جودة الحب، والوفاء العميق، كان صاحبي مثلا يقف حتى الصباح منتظراً حبيبته تلوح له بإشارة حب عن سطوح أهلها، مرة شرح لي جغرافيا مزراب سطوح حبيبته، كان يقول: مزراب حبيبتي ينبع من سطوح أهلها، ويمر عبر رقبتي، ليصب أسفل عمودي الفقري، كم كانت تصيبني قشعريرة الحب، لما كنت أستمع لشرحه الغني بالمعاني.. أما الآن، وأنا أتنقل بين المخيم، وجبل اللويبدة، وجبل الحسين حيث أقمت فضاء شعبيا ثقافيا سميته "نَقْش" فإنني عاشق، وأقول لك سراً، عاشق حتى الوله، يعني "ولهان"، في هذا الوقت الدموي العصيب لا أقوى إلا على أن أحتمي بالحب لكي لا أنكسر، إن العدو يريد كسر ذواتنا الفردية والجماعية، وليس فقط تهشيم الأجساد إلى أشلاء، يريد تحطيم نفوسنا حتى نحن، المنفيين، في الشتات، لذلك الحب، الآن، هبط علي كأعطية من السماء، والله أعنيها، خيمة لجوء جديدة مليئة بالورد الجوري، وشقائق النعمان، هكذا يخرج الحب، يخرج من المخيم ممتلئاً مقاوماً كسر الذوات ناصباً له خيمة في جبل اللويبدة، وفناء خلفيا في جبل الحسين، الحب نعمة السماء للذوات الحالمة.

* ارتفع لك شهداء من غزة يا يحيى، كانوا هنا في عمان ذات إصابة قديمة من رصاص المحتل، ماذا تقول لهم وهم تحت التراب وفي القلب؟
- لقد أرتقى ما يربو على 50 ألف شهيد وشهيدة كلهم أصدقائي، والله كلهم، كان من بين الـ50 ألف شهيد ثلة من الأقارب والأنسباء والأصدقاء الذين جاؤوا لعمان بهدف ترميم أجسادهم التي فتت قناصو الاحتلال أجزاء منها، خذ مثلاً الشهيد الشاب والكاتب الصديق، لي ولك، بلال إياد عقل، ذلك الذي أوصيتني به خيرا، كان قد تلقى رصاصة قناص في خده الأيمن لتخرج من خده الأيسر في مسيرة العودة 2017، استضفته ومرافقه الشاب حمزة أبو شكيان بعدما تماثل للشفاء لحين العودة لغزة، لم يصبر ذات القناص ربما على غمازتيه اللتين أحدثها القنص، لا بل تعمد على حرقه بقصف مكثف على مكان نزوحه هو وأهله، لم تنج الغمازتان، ولم ينج بلال نفسه، ولكن أقول: الكمنجة لها أثر، ما زلت ماثلاً يا بلال مثل لحن كمنجة، وسوف تبقى في البال، وربما في دموع المساء السرية.

* تخيل نفسك تعود الآن إلى يافا، تمشي في طرقات حدثك عنها جدك؟ حدثنا عنها؟
- كيف سأكتب الآن وأنا مغمض العينين تاركاً لشال حرير الخيال أن ينسدل على كتف منحدر صخري يطل على البحر.. كيف؟! حسناً، فليكن: قلت لك أعلاه إنني سوف أشتري فرسا من وسم أجدادي، وأبحث في يافا عن ساروجي قديم لأشتري سرجا موشحا بمطرزات يافاوية، أمشي في طرقات يافا القديمة في الصباح الباكر وأنا "خيالها" كأن يكون اسمها "وضحة" وأترنم على خبب مشيتها على حصى طرقات المدينة، أربط رسنها بعامود هاتف خشبي، وأدلف لمطعم شعبي قديم، فأتناول حبات الفلافل وأنا على ظهر الفرس، باحثا عن محل سكاكر كي تشاركني الفرس كسرة سفرتنا... ما أخصب هذا الخيال، يشعرني بأني بيارة برتقال، أو منحدر صخري يطل على بحر يافا.

 

أخبار متعلقة :