الكويت الاخباري

"ذاكرة الرحيل" لعبد الرزاق قرنح.. السرد الفاضح عن عوالم "صاحب نوبل" وبلاده المنكوبة! - الكويت الاخباري

 

كتبت بديعة زيدان:

 

في روايته الأولى، "ذاكرة الرحيل"، الصادرة بالإنكليزية في العام 1987، وصدرت بالعربية، حديثاً عن دار "أثر" للنشر والتوزيع في الدمّام بالمملكة العربية السعودية، بترجمة عبير عبد الواحد، يذهب "صاحب نوبل" الروائي التنزاني من أصول يمنية، عبد الرزاق قرنح، ويحمل الجنسية البريطانية، إلى ثيمات عدة، عبر التطرق لموضوعات المنفى والهجرة ومعاناة الطفولة والتخلي عنها، وهو نفسه، اضطر إلى مغادرة مسقط رأسه في شبابه.
ويمثل الأطفال والمراهقون الذين تم التخلي عنهم أو بيعهم للعبودية أو بيعهم بالمزاد العلني وغير العلني للزواج المبكر والقسري، محوراً أساسياً في الرواية، فوالدة "البطل"، أي "حسّان"، تشكل مثالاً مثاليّاً لشخص تحرّر اسمياً من العبودية، لكنه يبقى غير قادر على اتخاذ قرارات تغيّر حياته بنفسه، فقد تزوجت طفلة.. "تزوجت والدتي من والدي عندما كانت في السادسة عشرة.. لم يتم استشارتها أبداً"، وهنا إشارة إلى أنه تم بيعها، فتفضيلاتها في الحياة لم تؤخذ في الاعتبار، بحيث يتم تقديمها لرجل "كان خائناً منذ البداية.. كانت تعرف خيانته".
الأم كانت إفريقيا التي خدعها شقيقها بوعوده القديمة، والمستسلمة لحياة مرعبة ودموية مع الزوج الفاسد والشاذ، والخانعة أمام كل اضطهاد من كل صوب وحدب، يمسّها ويمس بناتها وأبناءها.
ولتمثيل تجربة الطفولة المشوهة في بلاده تنزانيا، وعموم أفريقيا، يتجه قرنح إلى الطفل "حسّان"، ليكون محور "ذاكرة الرحيل"، وراويها، هو الذي شكل رحيله للأم، التي هي هنا أفريقيا، كسراً في حلقة الخذلان المفرغة التي تعيشها، فتمسكت به كأملٍ أو حلّ أخير.
والسرد في "ذاكرة الرحيل" لا ينفصل بشكل أو بآخر، عن سيرة قرنح الذاتية، وذكرياته المؤلمة، فيكتب بإسهاب عن الهجرة، كما يظهر حين يُدفع "حسّان" من والديه، خاصة الأم، إلى الخال في نيروبي، للمطالبة بإرثها، في رواية تعكس شعوراً بالاغتراب والقهر والعجز داخل البلاد التي هي تنزانيا، وإن لم يصرح باسمها علانية، كما تعكس شعوراً بالغرابة والاختلاف، تحت مظلة عامة للسرد هنا، تتمثل في الانحياز نحو المحلية والهوية المشوهة أيضاً، والذاكرة الشيزوفرينية، والغوص في الماضي، والعودة اللاشعورية إلى الجذورة، مع التسلح بجرأة في البوح وتعرية الواقع، اجتماعياً، وسياسياً، واقتصادياً، وثقافياً، وأكثر من ذلك.
تدور الرواية حول ما يمكن اعتباره "انتفاضة فاشلة"، حيث يحاول الشاب الموهوب التحرر من الفقر الاجتماعي في الساحل، آملاً أن يحظى برعاية خاله الميسور في نيروبي، لكنه بدلاً من ذلك يُهان ويُعاد إلى عائلته المفككة، إلى والده المدمن على الكحول والعنف، وأخته التي تُجبر على ممارسة الدعارة.
تبدأ الرواية بترميز لا يمكن تجاهله، بحيث يبلغ "حسّان" سن الرجولة، أي الخامسة عشرة، في الوقت الذي نالت فيه بلاده استقلالها، دون أن يُحقق أي منهما وعده، خاصة أن الحكومة الجديدة لبلاده "المستقلة" في المرحلة الأولى ممّا بعد الاستعمار، تحجب نتائج الامتحانات التي راهن عليها لمستقبله، بادعاء الحد من الهجرة، وتوجيه ألمع طلابها لخدمة الاقتصاد كما تراه مناسباً، أي دون مقابل، وكأنه "الاستعباد الوطني".
والده، الذي سُجن سابقاً بتهمة الاعتداء الجنسي على طفل، يقضي الآن حياته متأرجحة بين الإساءة اللفظية والجسدية لعائلته، والسُكر، والدعارة، في حين أن الابن الأكبر، شقيق "حسّان"، تورط في علاقة مثلية طفولية، فتعرض للضرب حتى الموت على يد والده وهو في السابعة من عمره، وفي اليوم نفسه مات محترقاً، حيث لم يستطع الهرب من حريق الغرفة التي كانت محبسه، بينما تتحوّل شقيقة "حسّان" الكبرى إلى "عاهرة"، وهنا ترميز على طبيعة المرحلة في بلاد قرنح، الذي ينتقد قادة حكومة ما بعد الاستقلال في تنزانيا من خلال الراوي، إذ يُشار إليهم بـ"أدوات الاستهلاك والتغلغل، وحمقى الإشباع الذاتي"، وهذا يُظهر أنه لا يُبالغ في انتقاده للمجتمع كما هو.
يقرر "حسّان" الفرار من القرية، ويضع والداه خطةً ليتواصل مع خاله تاجر السيارات الناجح في نيروبي للمطالبة بميراث العائلة، وبالفعل يتلقى دعوةً لقضاء عطلة هناك، مُسلحاً بتعليمات والديه بألا يعود خالي الوفاض، فيسافر إلى كينيا، وهناك يتضح له أن عائلة خاله لا تختلف عن عائلته إلا في ظروفها الاقتصادية وليس في اختلالاتها، فالخال مسيء حد تعذيب وتعنيف زوجته وحبسها لدرجة أنها قضت منتحرة لتتخلص من عذاباته، قبل أن يكتشف أن الخال ليس لديه نية لإعطائه أي أموال، إلا أنه يضرب صداقة مؤقتة مع ابنة خاله عاشقة بيكاسو، ما يسرّع من تعميق الخلافات بينه وبين الخال، ومن ثمة طرده.
تدور أحداث الرواية في بلد وزمان غير مُحددين تماماً، في دولة حديثة الاستقلال على الساحل الشرقي لأفريقيا، مع أنه من السهل إدراك أن أحداثها تدور في أوائل ستينيات القرن الماضي في دولة "تنغايكيا" الجديدة، مع إشارات إلى "دار السلام"، العاصمة التنزانية لاحقاً، عبر الحديث غير العابر حول السياسات التي انتهجها حكومة بلاد "حسّان" كما قرنح بعد الاستقلال، خاصة في زنجبار بعد ثورتها العنيفة المؤيدة للأفارقة والمعادية للعرب والتجار الهنود واندماجها مع "تنغايكيا" لتشكيل تنزانيا، هي التي تسببت في نفي ليس فقط قرنح، بل والعديد من رواة رواياته، ومن بينهم "حسّان"، الذي ينتهي به المطاف مساعداً طبيّاً في سفينة.
وتؤكد الرواية أن الاستعمار ليس بريئاً مما حدث بل كان مسؤولاً عندما قرّب إليه ذوي الأصول الملونة نصف العربية واستعملهم في تجارة الرقيق، وجعل الأمر في أيديهم فاستشرى فساد تلك الطبقة، وحين زال الاستعمار ضاع هؤلاء وبدأت سنوات اليتم، والفقر، والانتقام الذي لا نجاة منه، في إطار من الفقر المدقع، والمرارة التي ترافق العائلة وتكوينها، وأزمة الهوية التي تسيطر بشكل غير مباشر على تكوين "حسان"، وفي إطار أوسع وأقل مباشرة، أزمة العالم ما بعد الاستعماري، فحديث الكاتب عن الاستقلال والسياسة يقع على هامش الرواية، لكنه يشكل بالتضافر مع مشكلة الهوية في هذا العالم، الأساس التي قامت عليه "ذاكرة الرحيل"، والتي تتمثل في شكل استعدادات جسدية عند شخصيات الرواية، وتفاعلاتهم المتناقضة مع الواقع.
هذا ما يظهر بالأخص عند النهاية، حيث الصراع على أشده عند "حسّان" بين الموروث والحداثة، بين قراره الأول وأحلام المراهقة بالسفر خارج البلاد، وما بين الاصطدام بالواقع واليأس وقرار البقاء في بلده كمحاولة منه لتغيير أي شيء، ثم الوصول إلى حالة وسط ما بين الاثنين بناءً على الواقع المحيط.
يقدّم قرنح في أولى رواياته سرداً مبهراً في تنقله بين الماضي والحاضر بخفة، علاوة على تلك الحرفية الأدبية البارزة في تشكيل الحكاية، دون أن يثقلها بإطار نظري على الرغم من محوريته، وهي معادلة ليس من السهل تحقيقها.
ويوصل قرنح رسالته في "ذاكرة الرحيل"، عبر راوٍ طفلٍ لا يُقهر، يخوض رحلة الانعتاق من أكثر من استعمار ومن سلطات محلية ترثه، وهو ما ينعكس في رسالة "حسّان" الأخيرة إلى ابنة خاله من على ظهر سفينة "إس. إس. آليس"، وتحديداً في 29 تشرين الأول 1968.. "أفكر كثيراً بموطني وأهلي، وكيف تسير الحياة معهم. إنني أتألم أشد الألم لمغادرتي ذلك المكان. من كان سيظن ذلك؟ لم يخطر ببالي قط أني سأفتقد تلك البلاد. والآن أخشى أنني سأرمي كل شيء وراء ظهري. دراما؟ المزيد من الدراما؟ أنا مشتاق لموطني. حتى إنني أشتاق إلى رؤية الرجل العجوز صاحب المبغى الذي يقطن في البيت المجاور لبيتنا. أحياناً تغيب عن ذاكرتي بعض الأسماء، حتى بعد هذا الوقت القصير، أحاول تذكّر الشوارع وألوان المنازل. أنا في المنفى، أقول لنفسي، ما يسهل عليّ احتمال هذا الشعور لأنني أستطيع بذلك منحه اسماً لا يخجلني".
في السنوات الأخيرة، ومع إجبار سلسلة من الأزمات الإنسانية أناساً يائسين على المخاطرة بحياتهم أملاً في استقرار أكبر ومستقبل أفضل في أوروبا، كما حدث مع كثير من العراقيّين واليمنيّين والسودانيّين والليبيّين، والسوريّين، والأوكرانيين أيضاً، وغيرهم، اكتسب عمل قرنح السردي هذا أصداءً واسعة وأهميةً أكبر، خاصة أنه يُزاوج الجدل حول اللجوء مع سردية مُريعة عن تعدد أسبابه، مُقدماً رواية عميقة بعيدة عن الصراخ الفاضح، عبر صوت ثابت لا يلين ولا يتراجع، وسرعان ما يصبح الصوت الوحيد الذي يسمعه المرء.

 

أخبار متعلقة :