تشهد سوريا تنوعا عرقيا ودينيا مختلف عبر فترات طويلة، الأمر الذي يجعل فكرة تحويل البلاد إلى دولة اتحادية فيدرالية بأنها ليست جديدة، بل طرح متجدد يعود إلى جذور تاريخية وسياسية عميقة، حيث نشأت هذه الفكرة بشكل جدي خلال الحرب الأهلية السورية التي بدأت عام 2011، وبرزت مطالب من قبل بعض المكونات، خاصة الأكراد، بتبني نظام لا مركزي أو فيدرالي كحل لتوزيع السلطة وإدارة التنوع.
أزمات حديثة تعيد النقاش إلى الواجهة
مع سقوط نظام بشار الأسد في ديسمبر 2024، عاد هذا الطرح إلى الواجهة بقوة، مدفوعاً بالواقع الجديد على الأرض والمشاكل الأمنية المستمرة، مثل أحداث الساحل السوري وأزمة السويداء، والتي عززت النقاش حول شكل الدولة السورية المستقبلية،
مؤتمر الحسكة ودعوات الإدارة الذاتية
تاريخياً، تعود جذور فكرة الفيدرالية في سوريا إلى حقبة الانتداب الفرنسي في عشرينيات القرن الماضي، عندما قسمت فرنسا سوريا إلى دويلات طائفية وإثنية، مثل دولة العلويين ودولة الدروز، في محاولة لإدارة المنطقة عبر سياسة "فرق تسد" إلا أنه بعد الاستقلال، حافظت الدولة السورية على نظام مركزي قوي، سيطرت فيه دمشق على جميع المفاصل، بقبضة أمنية حديدية، هذا النهج المركزي، المترافق بالقمع السياسي، غذى مشاعر الغبن والمظلومية، وساهم في اندلاع الثورة عام 2011 وتحولها إلى حرب أهلية معقدة، تدخلت فيها قوى خارجية وإقليمية عديدة.
رد دمشق وتصاعد التوترات
في الوقت الراهن، وبعد الإطاحة بنظام الأسد، يواجه الداخل السوري تحديات جسيمة، أبرزها الانقسامات المجتمعية وانهيار دعائم الأمن وبروز نزاعات محلية فقد شهد الساحل السوري، ذو الأغلبية العلوية، هجمات عنيفة على أساس مذهبي في مارس 2025 من قبل مجموعات مسلحة راديكالية، مما أدى إلى مقتل المئات من المدنيين، وتهجير الآلاف منهم، هذه الأحداث عززت مخاوف الأقليات من تكرار الحوادث الانتقامية وزعزعة الاستقرار، كما أظهرت عجز الحكومة المركزية الجديدة عن فرض سيطرتها على المجموعات المسلحة التي شاركتها مسيرة الثورة خلال سنوات.
اللامركزية كخيار عملي
في المقابل، في محافظة السويداء ذات الأغلبية الدرزية، اندلعت اشتباكات بين الدروز والبدو العرب، ثم تصاعدت إلى اشتباكات دموية أكبر، راح ضحيتها المئات من المدنيين، وشاركت فيها قوات نظامية تابعة للحكومة في دمشق، وتخللها أعمال انتقامية وحوادث سلب ونهب للممتلكات في عدة مدن من المحافظة. كما أن الهجمات الإسرائيلية والتي أدت لانسحاب قوات حكومة دمشق من المنطقة، فتحت الباب أمام مطالب الحكم الذاتي هذه الأزمات المتتالية سلطت الضوء على الحاجة إلى نموذج حكم جديد يعترف بالخصوصيات المحلية ويضمن المشاركة العادلة للجميع.
اللامركزية الإدارية في سوريا
يدور الطرح الحالي للفيدرالية في سوريا حول فكرة "اللامركزية الإدارية" كبديل للنظام المركزي التقليدي، ففي مؤتمر الحسكة الذي عقدته قوات سوريا الديمقراطية (قسد) في أغسطس 2025، طالبت مجموعة من المكونات الكردية والعربية والدرزية والعلوية بنظام لامركزي يمنح المناطق صلاحيات أوسع في إدارة شؤونها، مع الحفاظ على وحدة سوريا كدولة واحدة.
المؤتمر الذي شارك فيه زعماء محليون كالزعيم الروحي لطائفة الموحدين الدروز حكمت الهجري، ورئيس المجلس العلوي الأعلى في سوريا غزال غزال، دعا إلى توحيد الرؤى حول اللامركزية واستخدامها كورقة ضغط في المفاوضات مع حكومة دمشق.
وأكد البيان الختامي للمؤتمر على أن وحدة سوريا لا يمكن ضمانها إلا عبر نموذج الإدارة الذاتية، وانتقد مسودة الدستور المؤقت التي أعدها الرئيس الجديد أحمد الشرع لتركيزها السلطة في العاصمة.
وتسببت المطالب في أغضبت حكومة دمشق، حيث اعتبرت مؤتمر الحسكة انتهاكاً للاتفاقيات السابقة وتهديداً للوحدة الوطنية كما أن الحكومة، التي تهيمن عليها هيئة تحرير الشام "ذات خلفية جهادية"، ترفض أي تقسيم أو فيدرالية، وتصر على نظام مركزي قوي، وتهدد بالتعامل مع واقع التقسيم على الأرض بقوة السلاح، مالم تنجح المفاوضات، هذا الموقف يتصادم مع رؤية القوى المحلية والدولية الداعمة للفيدرالية، مثل الولايات المتحدة، التي ترى في اللامركزية ضمانة للاستقرار ومنع نشوب حرب أهلية شاملة من جديد.
ومع استمرار المشاكل الأمنية، مثل الهجمات الإرهابية وتدخل القوى الخارجية والصراعات الطائفية، تجعل الفيدرالية خياراً جذاباً للبعض ففي مناطق مثل الحسكة والرقة، دفعت قسد زعماء العشائر العربية إلى تبني مشروع "الإدارة الذاتية" كبديل عملي للحكم المركزي، وفي السويداء، يطالب الدروز بحكم ذاتي مشابه للتجربة الكردية، والمخاوف من أن تؤدي الفيدرالية إلى التقسيم الفعلي للبلاد، أقل وطأة على السوريين من وقوع البلاد في حرب أهلية طاحنة، خاصة إذا اتخذت أساساً طائفياً أو إثنياً.
وتعتبر فكرة تقسيم سوريا إلى فدراليات نتيجة تراكمية لتاريخ من المركزية القمعية وتفجّر الصراعات خلال عقد من الزمن. والطرح الحالي يدور حول اللامركزية كحل لتعددية سوريا، إلا أن تطبيقه يواجه عقبات كبيرة، أبرزها رفض الحكومة المركزية والتأثيرات الإقليمية.
واعتبر محللون ان الاستقرار في سوريا مرهون باعتراف الدولة بالتنوع ومنح المناطق صلاحيات ذاتية، دون التفريط بالوحدة الوطنية. كما أن مستقبل سوريا سيحدده قدرة السوريين على صياغة عقد اجتماعي جديد، ربما على غرار النموذج الألماني بعد الحرب العالمية الثانية، حيث نجحت الفيدرالية في تحقيق الوحدة مع احترام الخصوصيات الدينية.
أخبار متعلقة :