أكاديمي وسياسي مغربي، وأستاذ للعلوم السياسية بجامعة محمد الخامس بالرباط.
20/8/2025-|آخر تحديث: 00:39 (توقيت مكة)
في أعقاب تصريح رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو عن إيمانه الراسخ بـ"إسرائيل الكبرى"، حذر السفير المصري حسين هريدي، مساعد وزير الخارجية السابق، من مخاطر نكبة ثالثة، جراء أحلام الهيمنة الإسرائيلية، بعد النكبة الأولى 1948، ثم النكبة الثانية التي تدور رحاها في غزة، أما النكبة الثالثة، لا قدّر الله، فهي إجلاء الفلسطينيين من الضفة الغربية وغزة، وتحقيق حلم "إسرائيل الكبرى" باقتطاع أراضٍ من دول الجوار، من الأردن، ولبنان، وسوريا، ومصر.
والنكبة، مثلما يقول الكاتب اللبناني الراحل إلياس خوري، ليست مجرد لحظة تاريخية، ولكنها حالة، متحولة ومتحورة. والحقيقة أنه نفس المدلول الذي أعطاه قسطنطين زريق للنكبة في كتابه: "معنى النكبة"، أي أن النكبة ليست ضياع الأرض وحدها، ولكن الوقوع في حالة من الانهزامية، وأن المعركة ليست عسكرية فقط، وإنما حضارية.
ربما يمكن أن نضيف مفهوما آخر للنكبة، قدّمه المؤرخ البريطاني إيوجين روغان E. Rogan في كتابه: "العرب"، من خلال الآثار التي أحدثتها، والتي لم تقتصر على ضياع الأرض، وتهجير الساكنة الفلسطينية من ديارها، بل إيقاف مدّ تحديثي في الشرق الأوسط، والإجهاز على نخبة ليبرالية واعدة، أي أن العرب الذين كانوا يحلمون بأن يكونوا فاعلين، أضحوا موضوعا للتاريخ، جراء هذا المنعطف التاريخي، وبهذا المعنى، فالنكبة هي أكثر من صور الدمار، والتهجير، والأسى، وإنما الخروج من التاريخ.
ما يظهر للعيان، من خلال المآسي المترتبة عن النكبة، من ضياع، ودمار، وتشريد، وتهجير، إن هو إلا التعبير المادي عن تصور ورؤية، وبتعبير أوضح، النكبة هي الترجمة العملية لأيديولوجية رافضة، أو تصور يشجب الآخر، والتعبير المادي لها.
ولذلك فنكبة 1948 هي النتيجة الحتمية للقاعدة الأصولية للصهيونية وخطيئتها الأصلية: "أرض بلا شعب، لشعب بلا أرض"، ونكبة غزة الحالية هي النتيجة الحتمية لقانون الهوية الإسرائيلي، والتوجه الشعبوي اليميني المتطرف، ولو يُقدر جدلا، لمشروع إسرائيل الكبرى، ومرجعيته الصهيونية الدينية، أن يتحقق، فسيفضي ذلك، مثلما قال الدبلوماسي المصري المشار إليه، إلى نكبة ثالثة.
إعلان
ليست النكبة إذن نتيجة توالد طبيعي، وإنما هي نتاج لتصور ورؤية.. والجانب العملياتي إن هو إلا تنزيل لتصور ورؤية، لذلك ينبغي للمواجهة أن تتصدى لعناصر النكبة قبل أن تستوي، وقبل أن تنتقل إلى الإنجاز.
ولذلك لا ينبغي الاستهانة بما يرشح من مشروع إسرائيل الكبرى، لأن النتيجة التي ستتولد عنها هي نكبة كبرى، ولن تقتصر النكبة على الفلسطينيين، ولن تستثني دول الجوار وشعوبها.
بل سيحكم عليهم بالانهزامية، والدونية، والاقتتال الداخلي، مما يفضي إلى سلسلة من الانقسامات والانفصالات، ولن تسلم بلاد المغرب من تلك التداعيات. واهم من يعتقد أننا في بلاد المغرب في منأى من تداعيات ما يجري في الشرق الأوسط.
ما نعيشه اليوم من احتدام طائفي هو نتيجة عمل منهجي، على المستوى الأكاديمي، والدبلوماسي، والإعلامي، والعلاقات العامة، وصياغة نخب، إعلاميا، وأدبيا، وأكاديميا، لعقود من الزمن.
أستحضر ما كان يُردّد عقب التوقيع على اتفاقية أوسلو، من أن الصهيونية كانت عملا على الإنسان اليهودي، نقلته من طور لطور، وجعلت منه إنسانا جديدا، فصاغت منه مزارعا ومحاربا، وهو الذي لم يكن لزهاء ألفي سنة، مزارعا وحاملا للسلاح.
أما الصهيونية الجديدة، فهي اشتغال على إنسان العالم العربي، من خلال الثقافات الفرعية، والحريات الفردية، وحرية التعبير، وحقوق المرأة، وهي كلها مبادئ نبيلة، وكلمات حق، ولكن يُراد بها باطل.
لقد تبدّت الأوجه الخلفية، أو الوجه الكابي لجانوس، كما لدى الأسطورة الرومانية، الذي له وجه برّاق، وآخر جهْم، لهذه المبادئ النبيلة، في كثير من بلدان العالم العربي، وأصبح الدفاع عن الأقليات، وحرية التعبير، والحريات الفردية، مداخل للتدخل، والتأثير، والتأطير، ومعاول للهدم.
يمكن أن نستخلص بعض الدروس من النكبة الأولى، 1948، وكيف أنها قضت على أنظمة، وغيّرت الثقافة السياسية في المنطقة، ودفعت بقوى، وحجبت أخرى، وتوزع الشرق الأوسط، بنسب متفاوتة، ما بين الجيش، الذي استند في الغالب إلى القومية العربية، والإخوان المسلمين، حتى 1967، حيث سعى الإسلام السياسي أن يديل من فلول القومية العربية. والحقيقة أن كلا من القومية العربية والإسلام السياسي، متفرعان عن كدمة النكبة.
وسيكون من السذاجة الاعتقاد أن الشرق الأوسط خصوصا، والعالم العربي عموما، سيبقيان كما كانا، وأن لا شيء سوف يتغير بعد نكبة غزة الحالية.
يتقدم تاريخ الشرق الأوسط، بشكل أكثر تراجيدية وحدّة. كل اندحار لا يهيئ إلى هبّة، بل إلى اندحار أكبر. نكبة غزة، أكثر بشاعة وهولا من نكبة 1948، ويمكن أن نتصور كيف يمكن أن تكون، لا قدر الله، النكبة الثالثة، أو النكبة الكبرى، مع أحلام إسرائيل الكبرى.
يواجه العالم العربي، أكبر تحدٍّ عرفه منذ قرنين، بعد تحدي الاستعمار. اكتسى الاستعمار جرحا وجوديا لمجتمعات تحمل حضارات عريقة، وذاكرة تاريخية. هزّ يقينيات، ورسم حدودا بشكل اعتباطي، ولكنه لم يقضِ على ذاكرة، ولم يفكك لُحمة، وهيأ المجتمعات للتحديث، ومنحها بعض أدوات فهم ذاتها وتاريخها.
وبتعبير آخر، لم يكن الاستعمار كله نقمة، أو لم يستطع أن يقضي على روح الأمم، واستطاعت دول العالم العربي، بعد رفع ربقة الاستعمار، أن تُبقي على الحد الأدنى من المشترك، وتلتقي في بيت، وتحلم بدفاع مشترك، وتحيا في لغة واحدة، ونتاج ثقافي، وتلتقي في قضايا مشتركة، وتحلم بمصير مشترك… إلى أن أخذ ذلك يتهلهل، تحت تأثير عوامل عدة، ولم يبقَ الشعور المشترك إلا على مستوى الوجدان الشعبي، أو بعض الفعاليات، وتوارى عن مراكز القرار، أو يكاد. خرج العالم العربي من الاستعمار بأقل الأضرار، وليس مُقدّرا أن يخرج سالما من التحدي القائم.
إعلان
يتجاوز التحدي القائم اليوم مدى ما أحدثه الاستعمار. فهو ليس مجرد جرح وجودي، بل نهاية وجودية، أو نكبة كبرى، تُهلهل السُّدى [النسيج] القائم، وتضع حدا لدول، أو تجعلها غير قابلة للحياة، (مما نراه رأي العين)، وتقضم من أخرى، وتُقزّم أخرى، وتزج بدول في دائرة توترات مرتفعة، فيما بينها، وبداخلها… وقد تنتهي بها إلى التقسيم والانفصال.
هل يمكن للدول العربية أن تبقى صمّاء، أمام مخاطر النكبة الكبرى؟ هل يمكن أن ترتكن إلى الواقعية، والبراغماتية، و"مغانم السلام"، والعقلانية الاقتصادية، أمام أخطار وجودية؟
مصر والأردن معنيتان بشكل مباشر، من خلال ما يُعرف بخطة الجنرالات، أي التهجير القسري، ولبنان، وسوريا، كلها معنية من خلال أحلام إسرائيل الكبرى بقضم أراضيها، وكل الدول حيث توجد طوائف إثنية وعقدية معنية، فهل ينبغي الانتظار إلى أن تقع الفأس على الرأس، "للوقوف وقفة رجل واحد"؟ وهل يستطيع أن يقف من دُق رأسه، وشُلّت أطرافه؟
لا يكفي أن تُدين جامعة الدول العربية تصريح نتنياهو حول إسرائيل الكبرى، بل المطلوب رؤية جديدة، وتصور جديد، على مستوى العالم العربي، في هدوء، بالأدوات الدبلوماسية.
ويتوجب على مستوى كل دولة إعادة ترتيب الأولويات، وتحديد ما التناقض الجوهري، الذي لا يمكن التعامل معه، والتناقض الثانوي، الذي يمكن التعايش معه.
وينبغي، على مستوى دائرة أصحاب الفكر، تشخيصُ الأخطار المحدقة التي تُنذر بنكبة كبرى، مع تصور جديد لتجاوزها. الحرب على غزة، والبشاعة التي رافقتها، عصفت بأوهام، وغيرت قواعد اللعبة. "ومن لا يُبصر من الغربال، أعمى"، كما يقول المثل العربي.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
أخبار متعلقة :