لا تزال الأزمة السودانية تتقاطع مع خرائط الصراع الإقليمي والدولي كخيط متوتر في نسيج معقد، لا ينفك يتشابك عند كل منعطف. فالمشهد الداخلي، الذي بدأ بتمرد مليشيا الدعم السريع على الدولة، تمدد كجمر تحت الرماد ليشمل أذرعا خارجية تمتد من وراء البحار.
ولعل أحدث حلقاته كان الإعلان المثير للحكومة السودانية عن استهداف طائرة محملة بأربعين مرتزقا كولومبيا في مطار نيالا بدارفور، في مشهد بدا وكأنه فصل جديد من "حرب الظلال". الأمر الذي أثار جدلا وتحليلات عميقة حول طبيعة التدخلات الأجنبية في النزاع، وتداعياتها الأمنية والسياسية.
لقد أثارت مشاركة المرتزقة الكولومبيين في هذه الفضيحة موجة عارمة من الغضب والدهشة، إذ تحول هؤلاء الجنود السابقون، الذين خبروا ساحات الصراع في أميركا اللاتينية، إلى أداة مأجورة في نزاعات خارج حدود أوطانهم.
لقد جُندوا بوعود المال السريع، ليجدوا أنفسهم في قلب عمليات مشبوهة اتسمت بالغموض والتشابك السياسي والأمني، فارتبطت أسماؤهم بجرائم وانتهاكات أثارت إدانة عالمية.
وقد شكلت هذه المشاركة صدمة للرأي العام، إذ كشفت عن شبكة معقدة من السماسرة وشركات الأمن الخاصة التي تتاجر بالبشر كسلعة في سوق الحروب.
حدث مشين ولعبة قذرة
ما بين طموح فردي للهروب من الفقر وإغراءات العقود المربحة، تورط العشرات في مهام لا تعرف شرف المهنة العسكرية، ليصبحوا جزءا من لعبة أممية قذرة، تُدار من خلف الستار وتُكتب فصولها بالدم والعملة الصعبة.
هذه الفضيحة لم تفضح الأفراد وحدهم، بل كشفت الوجه المظلم لصناعة المرتزقة في العالم المعاصر.
إن هذا الحدث المشين يعكس واقعا متغيرا في ميدان الحرب في السودان، حيث برز ملف المرتزقة كأداة رئيسية تستخدمها بعض القوى لتعزيز نفوذها في المنطقة دون إعلان مباشر عن تورطها، ما يستوجب فهما معمقا لتاريخ هذا النوع من التدخل، وآليات التجنيد، والدوافع الجيوسياسية، فضلا عن تقييم الأثر على الوضع الداخلي والإقليمي.
إعلان
لقد نشأ سوق المرتزقة الكولومبيين من خلفية تاريخية تتصل بالحرب الأهلية التي دامت لأكثر من خمسة عقود في كولومبيا، والتي كانت تضم صراعات بين الحكومة، والجماعات اليسارية المسلحة، ومليشيات عصابات المخدرات.
هذا النزاع القاسي أنتج جيلا من المقاتلين المحترفين الذين اكتسبوا خبرات قتالية متقدمة في الحروب غير النظامية والتكتيكات العسكرية المتنوعة.
مع توقيع اتفاق السلام بين الحكومة الكولومبية وجماعات مسلحة رئيسية خلال العقد الماضي، واجه العديد من هؤلاء المقاتلين السابقين تحديات اجتماعية واقتصادية حادة، ما دفع شريحة منهم إلى البحث عن فرص جديدة عبر تقديم خدماتهم القتالية كمرتزقة في مناطق نزاع عالمية.
شهد العقد الأخير توسعا في الطلب على المرتزقة الكولومبيين في العديد من النزاعات، خصوصا في الشرق الأوسط وأفريقيا، حيث تم توظيفهم في دول مثل ليبيا، واليمن، وسوريا، لا سيما في مهام الحراسة الخاصة، والتدريب العسكري، والعمليات القتالية المباشرة.
يتميز المرتزقة الكولومبيون بأسلوب قتالي يجمع بين الكفاءة في القتال التكتيكي، والقدرة على العمل في بيئات معقدة، وسرعة التأقلم مع الظروف الميدانية المتغيرة، مما جعلهم خيارا فاعلا في أسواق الارتزاق العسكرية العالمية.
حادثة مطار نيالا: التفاصيل والتداعيات
في السادس من أغسطس/آب الحالي، أعلنت السلطات السودانية عن تنفيذ ضربة جوية دقيقة على مطار نيالا في إقليم دارفور، مستهدفة طائرة كانت تقل ما يقارب أربعين مرتزقا كولومبيا كانوا في طريقهم للانضمام إلى القتال مع تشكيلات مليشيات الدعم السريع المتمردة.
جاءت هذه العملية كرسالة واضحة تؤكد رفض الحكومة السودانية التام تدخلات المرتزقة الأجانب في الحرب المشتعلة في البلاد، بل وعكست هذه العملية النوعية قدرة سلاح الجو السوداني على استهداف التهديدات القادمة من الخارج عبر ضرب مراكز الإمداد والتموين.
وأثارت هذه الضربة ردود فعل متباينة على المستويين؛ الإقليمي والدولي، حيث اعتبرها البعض مؤشرا على تصاعد خطير في النزاع، بينما رأى آخرون أنها بداية لضبط النزاع والتقليل من التدخلات الخارجية التي تعقد الملف السوداني.
خلال الفترة التي سبقت الضربة وبعدها، انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي ومواقع إخبارية عدة مقاطع فيديو توثق مشاركة المرتزقة الكولومبيين في العمليات العسكرية بدارفور، يظهرون فيها وهم يتقدمون في المعارك إلى جانب مليشيات الدعم السريع.
وعكست هذه المشاهد تزايد وجود هؤلاء المرتزقة على الأرض، ومدى تأثيرهم في العمليات القتالية، حيث أظهرت اللقطات استخدام هؤلاء المرتزقة تقنيات عسكرية متقدمة، والتنقل التكتيكي السريع، وهو ما يرفع من مستوى التعقيد في الحرب.
في خضم هذا التفاعل الدولي، بثت قناة Caracol TV الكولومبية خطاب رئيس مجلس الوزراء السوداني الدكتور كامل إدريس، الذي وجهه للشعب الكولومبي والحكومة هناك باللغة الإسبانية. وقد دعا إدريس في رسالته جميع المجتمعات الناطقة بالإسبانية إلى ضرورة وقف تجنيد المرتزقة وإرسالهم إلى السودان.
وجاء في خطابه: "انطلاقا من روح الإبداع والتضامن والالتزام بالسلام، يأتي هذا النداء للوقوف معا بثبات من أجل إنهاء الحصار على مدينة الفاشر، ووقف تجنيد المرتزقة وإرسالهم إلى أرضنا".
إعلان
كما أشاد إدريس بالنداء الذي أطلقه رئيس وزراء كولومبيا لإنهاء تجنيد المرتزقة الكولومبيين في دارفور، مؤكدا أن العالم الناطق بالإسبانية قدم إسهامات بارزة للبشرية، من فن بابلو بيكاسو إلى شعر بابلو نيرودا، وسرديات غابرييل غارسيا ماركيز، وأدب ماريو فارغاس يوسا.
آليات التجنيد: شبكة عالمية معقدة
يتم تجنيد المرتزقة الكولومبيين عبر شبكات منظمة، تعتمد بشكل كبير على استغلال الأوضاع الاقتصادية الصعبة لبعض المقاتلين السابقين في كولومبيا، ويعمل وسطاء وشركات أمن خاصة على استقطابهم وتقديم عقود عمل مغرية خارج البلاد.
بعد مرحلة التجنيد، تبدأ عمليات النقل التي غالبا ما تتم عبر رحلات جوية خاصة أو تجارية تتنقل عبر مطارات في دول الجوار، باستخدام وثائق مزورة أو تحت مظلة رحلات غير رسمية، لتفادي الرقابة الأمنية الصارمة.
كما تستغل هذه الشبكات الثغرات في الرقابة الحدودية والفساد لتسهيل عبور المرتزقة عبر الممرات البرية أو البحرية، خصوصا في مناطق حدودية يصعب مراقبتها بشكل دائم.
يرتبط التمويل لهذه العمليات بأطراف إقليمية ترغب في تعزيز نفوذها عبر دعم قوى مسلحة داخل السودان، مستفيدة من القدرة القتالية التي يقدمها المرتزقة دون ظهور مباشر.
يكتسب وجود المرتزقة الكولومبيين في السودان أهمية إستراتيجية في إطار تنافس أوسع بين قوى إقليمية ودولية تسعى إلى تحقيق مكاسب في منطقة القرن الأفريقي، التي تعتبر نقطة وصل حيوية بين أفريقيا والبحر الأحمر والشرق الأوسط.
ويتميز السودان بموقع إستراتيجي مهم وثروات طبيعية كبيرة، من ذهب ونفط ومعادن أخرى، إضافة إلى موقعه على طريق الملاحة عبر البحر الأحمر، مما جعل الدول الإقليمية والدولية تستثمر في النزاع من خلال أدوات متعددة، بينها استخدام المرتزقة لتعزيز مواقفها، وتحقيق مكاسب عسكرية وسياسية دون الانخراط المباشر في الحرب، وهو ما يمنحها القدرة على الإنكار وتحاشي تبعات التدخلات الرسمية.
ولعل هدف توريط المرتزقة الدوليين تعزيز ومحاولة وقف انهيار مليشيا الدعم السريع التي تلقت ضربات قاصمة من الجيش السوداني. وذلك بغرض محاولة تغيير ميزان القوى الداخلي لتعطيل الحسم العسكري لصالح الجيش السوداني وإطالة أمد الحرب.
تحديات مكافحة الارتزاق
تعد مشاركة المرتزقة في الحرب السودانية عاملا يفاقم الأزمة الإنسانية والسياسية، حيث تسهم في تأخير خطط إعادة الاستقرار، وتعقيد المشهد الأمني.
فهؤلاء المرتزقة لا يخضعون بالضرورة لسيطرة واضحة أو مسؤولية قانونية داخل السودان، مما يزيد من الانتهاكات والجرائم المحتملة ضد المدنيين. فضلا عن زيادة الالتهاب في منطقة القرن الأفريقي التي تعاني من مشاكل أمنية متراكمة.
وفي ذات الوقت يعمل تورط المرتزقة الأجانب على تقويض الجهود الدبلوماسية والتفاوضية الرامية لإنهاء الصراع، إذ يتعقد المشهد السياسي؛ بسبب تعدد الفاعلين واختلاف أجنداتهم، مما يتطلب نهجا إقليميا ودوليا منسقا لمعالجة هذه التحديات.
إن حادثة مطار نيالا وما رافقها من شواهد ميدانية عبر مقاطع الفيديو، تؤكد أن الصراع في السودان تجاوز حدوده الداخلية ليصبح ساحة تنازع دولي متعدد الأبعاد.
ويبرز ملف المرتزقة الكولومبيين في الحرب السودانية كأحد الأبعاد الحساسة التي توضح مدى تعقيد الأزمة وتداخلها مع مصالح إقليمية ودولية وتحول الحرب من تعاطي داخلي مع تمرد داخل الدولة إلى ساحة تصادم متعددة الأبعاد.
إن مواجهة هذه الظاهرة تتطلب جهودا متكاملة تشمل تعزيز الرقابة على الحدود والمطارات، وكشف شبكات التجنيد والتمويل، ودعم الحل السياسي الشامل الذي يحظى بإرادة وطنية، ويقود إلى استقرار مستدام.
فبدون هذه الخطوات، سيظل السودان يعاني من تأثيرات التدخلات الخارجية التي تستغل هشاشة الدولة لتحقيق مكاسب خاصة على حساب أمن واستقرار البلاد.
إعلان
فمن دون هذه الإجراءات، سيبقى السودان مسرحا لحرب بالوكالة، تتحرك فيها جيوش الظل من غابات الأمازون إلى رمال دارفور، تحمل معها رياح الخراب وتترك خلفها خرائط جديدة مرسومة بمداد الدم.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
أخبار متعلقة :