دمشقـ "سمعت أصوات إطلاق نار متقطعة تقترب شيئا فشيئا، ثم اندفع عدد من الرجال نحو باب قاعة الكنيسة، واشتبكوا بالأيدي مع رجل ملثم.. لحظات فقط، ثم لم أعد أشعر بشيء، المكان أضاء باللون الأبيض، ودوى الطنين في أذني"، بهذه الكلمات يصف الشاب آرام الخليل (25 عاما) اللحظات الأولى لتفجير كنيسة مار إلياس بحي الدويلعة في العاصمة دمشق.
آرام، الذي نجا بأعجوبة من التفجير، يروي في حديثه للجزيرة نت: "بعد نحو 5 دقائق، بدأت أستعيد بصري تدريجيا، وإذا بالمشهد من حولي مروعا: أشلاء متناثرة، غبار كثيف، نساء يصرخن ويتدافعن، وأيقونات القديسين وقد سقط معظمها على الأرض".
هكذا كانت اللحظات الأولى للتفجير الانتحاري الذي هز كنيسة مار إلياس، صباح الأحد، وأدى إلى مقتل 25 مدنيا وإصابة 63 آخرين بجروح متفاوتة، بحسب ما أعلنته وزارة الصحة السورية.
وقالت وزارة الداخلية السورية -في بيان- إن العملية نفذها انتحاري ينتمي لتنظيم الدولة الإسلامية، حيث دخل الكنيسة الواقعة في حي الدويلعة شرقي دمشق، وأطلق النار عشوائيا قبل أن يفجر نفسه بواسطة حزام ناسف.
أحبة بين الركام
وفي محيط الكنيسة، كانت رولا لطيفة (32 عاما) تراقب المشهد من على بعد أمتار قليلة، إذ كانت في زيارة لأحد أقاربها عندما وقع الانفجار. تقول للجزيرة نت إن "المشهد كان فظيعا.. رأيت مدنيين يحاولون نقل المصابين.. بعضهم كان فاقدا لأطرافه، وآخرون لم يتبق من أجسادهم سوى أجزاء ممزقة".
وتتابع: "سرعان ما تجمهر الأهالي حول الكنيسة، كثيرون كانوا يركضون ويصرخون بحثا عن أبنائهم أو أقاربهم، وبينهم أمهات يجهشن بالبكاء، وآباء يجهدون لاختراق طوق الدخان والغبار وهم يرددون أسماء أحبائهم بصوت متهدج".
وتؤكد رولا أن ما حدث شكل "صدمة جماعية"، مشيرة إلى أن حي الدويلعة، الذي تسكنه غالبية من الطائفة المسيحية، ظل طوال سنوات الحرب السورية الـ14 بعيدا عن المواجهات المباشرة أو الأحداث الأمنية العنيفة، مما زاد من وطأة التفجير على سكانه.
ردود رسمية ودينية
وفي أول رد رسمي، دانت وزارة الخارجية السورية التفجير، واعتبرته "محاولة يائسة للنيل من وحدة النسيج الوطني السوري، واستهدافا واضحا للتعايش المشترك بين مكونات المجتمع".
إعلان
من جهته، صرح وزير الداخلية أنس خطاب بأن "مثل هذه الأعمال الإرهابية الجبانة لن تثني الدولة السورية عن مواصلة جهودها في تثبيت السلم الأهلي، وملاحقة فلول الإرهاب أينما وجدوا".
الهجوم أثار موجة تنديد واسعة، إذ أعلنت عدة دول وهيئات إقليمية ودولية تضامنها مع الشعب السوري وأهالي الضحايا. وشهدت مدينة حمص -مساء الأحد- وقفة تضامنية مع أسر الضحايا، في حين أقيمت -صباح اليوم الاثنين- قداديس وصلوات في عدد من الكنائس السورية، حدادا على أرواح من قضوا في الهجوم.
وأغلقت قوى الأمن السوري الطرق المؤدية إلى كنيسة مار إلياس في الدويلعة، إلى جانب كنائس أخرى في أحياء باب شرقي، وباب توما، والقصاع، مع نشر قوات إضافية من الشرطة والأمن الداخلي، تحسبا لأي طارئ.
وعبّر سوريون في منشورات على مواقع التواصل الاجتماعي عن غضبهم وحزنهم عقب التفجير الانتحاري الذي استهدف كنيسة مار إلياس في منطقة الدويلعة في دمشق.
وكتبَ المحامي السوري ميشال شماس -في منشور عبر صفحته على فيسبوك- أن رسائل عدة أراد الإرهابي إرسالها من خلال تفجير نفسه بين المصلين، وفي مقدمة تلك الرسائل كانت "معاقبة المسيحيين على موقفهم المسالم والمساند للدولة وتأليبهم ضد السلطة، وإظهارها بمظهر العاجز عن إدارة الدولة وحماية الناس في رسالة موجهة للخارج، وتقويض جهود السلطة في استقرار البلاد والمحافظة على السلم الأهلي".
بينما دوّن الخبير الاقتصادي السوري كرم الشعار على صفحته في فيسبوك: "إن العنف ترتكبه حلقة ضيقة ومدانة تقريبا من الجميع، لكن الجرم المنتشر والذي لا يقل سوءا هو التحريض، التحريض على فئة دينية، على فئة عرقية، على فئة جندرية، التحريض هو وقود القتلة".
ضرب السلم الأهلي
يرى المحلل السياسي السوري عبد الكريم عمر أن من يفكر جديا في الواقع السوري لن يتخوف من التفجير الغادر الذي استهدف كنيسة مار إلياس أمس الأحد. ويضيف في حديث للجزيرة نت: "في النهاية، سوريا الوليدة عمرها 6 أشهر فقط، ونحن نعيش فترة مخاض عسير، والدولة تبنى من القاع بعد 54 سنة من الحكم المستبد، وبعض الاختراقات الأمنية قد تحصل".
واعتبر عبد الكريم أن مسؤولية حماية الدولة ومواطنيها تقع على عاتق الدولة وأجهزتها، مستدركا "لكن يجب ألا نحمَّل الدولة الكثير، فالوضع مستقر خلال 6 أشهر".
وأشار المحلل السياسي إلى أن ما حدث كان مؤلما وقاسيا، مؤكدا في الوقت ذاته ضرورة عدم "الصيد في الماء العكر".
واعتبر أن هناك مخاوف حقيقية ترتبط بعجلة الاقتصاد، التي بدأت بالدوران بفعل تحركات شركات استثمارية كبرى ورجال أعمال يسعون للعمل في سوريا. وأن هذه التحركات قد تثير بعض الهواجس الأمنية لديهم، مما ينعكس سلبا على الوضع السوري داخليا وخارجيا.
وأوضح المتحدث ذاته أن سوريا عانت من سنوات من الحرب، والانقسام المجتمعي، والصراعات المتعددة. وأن بعض الجهات المتضررة من الإنجازات الأخيرة، التي لا يروقها استقرار سوريا، تسعى إلى استغلال مثل هذه الأحداث، بهدف ضرب السلم الأهلي، والوحدة الوطنية، والنسيج الاجتماعي السوري.
إعلان
تعايش سلمي
يعدّ حي الدويلعة من الأحياء الدمشقية الهادئة، وهو معروف بأغلبية مسيحية متجذرة، وبتاريخه في التعايش السلمي، حيث لم يشهد منذ بداية الثورة السورية عام 2011 أي حوادث عنف مماثلة، مما جعل سكانه يشعرون بالأمان النسبي مقارنة ببقية المناطق.
ويرى مراقبون أن التفجير يحمل في طياته رسالة مزدوجة، فمن جهة يعيد تذكير السوريين بوجود خلايا مسلحة قادرة على تنفيذ عمليات تفجير في قلب العاصمة، ومن جهة أخرى يستهدف مجتمعات محلية تعايشت طوال الحرب على هامش النزاع المسلح، ولم تكن طرفا في أي صراع.
وبينما لا تزال السلطات الأمنية تتابع التحقيقات، تبقى مشاهد الصدمة والذهول حاضرة في وجوه الناجين، مثل آرام، الذي يقول: "كل ما أتمناه هو أن تكون هذه آخر مرة يشهد فيها هذا المكان الطاهر مثل هذا الرعب.. لقد رأيت الموت بأم عيني، ولا أتمنى لأحد أن يرى ما رأيته".
أخبار متعلقة :