الكويت الاخباري

لمحة عن التكنولوجيا المستخدمة في ملاجئ الأغنياء - الكويت الاخباري

في القرن العشرين، خصوصًا خلال ذروة الحرب الباردة، كانت الملاجئ تُبنى على نفقة الدول وتُدار ضمن برامج الحماية المدنية، كجزء من إستراتيجية الاستعداد الشامل لأي هجوم نووي. لم تكن هذه الملاجئ رفاهية، بل بنية تحتية وطنية عامة، تُشيّد تحت المدارس والمباني الحكومية وحتى في الأحياء السكنية، ومفتوحة للجميع دون تمييز طبقي أو مالي.

كانت الملاجئ آنذاك بسيطة التصميم: صناديق رمادية مدفونة تحت الأرض، تُكدّس فيها المواد الجافة، وأقنعة الغاز، ومولدات الكهرباء اليدوية. لكنها حملت رمزا واضحا لفكرة النجاة الجماعية، حيث المواطن جزء من منظومة حماية تقودها الدولة.

أما اليوم، فقد تبدّل المشهد بالكامل. لم تعد الملاجئ وسيلة لحماية السكان، بل تحوّلت إلى مشروعات استثمارية خاصة، تحاكي الفخامة وتستهدف الأثرياء. لم تعد تدار بأجهزة الدولة، بل من شركات خاصة تُسوّق لحلول بقاء مؤتمتة وفاخرة.

في هذه الفلسفة الجديدة، صارت النجاة نظامًا هندسيًا مُعقدًا تديره الخوارزميات، ويعتمد على تقنيات الطب الذكي، والطاقة المستدامة، والتحكم البيومتري. شركات كبيرة لا تبيع فقط "ملاجئ"، بل منشآت مغلقة ذاتيًا، يمكنها احتضان حياة بشرية كاملة، دون الحاجة إلى أي صلة بالعالم الخارجي، لسنوات عدة.

"أين سأبني ملاذي الأخير؟"سؤال الأغنياء عند نهاية العالم

في عام 2017، دُعي المفكر الإعلامي دوغلاس رشكوف لإلقاء كلمة في مجموعة من كبار المستثمرين في وادي السيليكون عن مستقبل التقنية.

لكنه فوجئ بأن الحديث لم يدر عن أفكاره، بل كان عن مخاوف الذين استدعوه: أيّهما أفضل لبناء الملاجئ؟ نيوزيلندا أم ألاسكا؟ كيف يمكنهم التحكم في فرق الحماية بعد انهيار قيمة المال؟ وهل يجب الاعتماد على الذكاء الاصطناعي لإدارة الأزمات داخل الملجأ في حال انقطعت الاتصالات بالعالم الخارجي؟

كانت الأسئلة حقيقية، والخوف حقيقي. فالملاجئ بالنسبة لهؤلاء لم تعد خطة بديلة، بل استثمارًا استباقيًا في عالم يُعاد تصميمه من تحت الأرض.

إعلان

بيتر ثيل، المستثمر البارز في فيسبوك وباي بال، ربما يكون النموذج الأشهر بين هؤلاء. فقد حصل على جنسية نيوزيلندا خصيصًا لبناء ملاذ آمن في أرض بعيدة، ذات استقرار سياسي، وموقع جغرافي محايد.

تبعه آخرون إلى جبال ساوث آيلاند، حيث بُنيت ملاجئ مخفية بين الطبيعة، لا يمكن تمييزها من الفلل الراقية، لكنها مجهزة بأنظمة مقاومة نووية ومولدات مستقلة، ومداخل سرية تحت الأرض.

في الولايات المتحدة، تتصدر شركة سيف (SAFE) المشهد في بناء الملاجئ المؤتمتة، حيث دشّنت مشروع آيري (Aerie)، وهو مجمع فاخر بتكلفة تتجاوز 300 مليون دولار، يضم 625 وحدة، تصل تكلفة الواحدة منها إلى 20 مليون دولار.

يحتوي المشروع على عيادات طبية مدعومة بالذكاء الاصطناعي، أنظمة أمن بيولوجي، مسابح، مراكز استشفاء، وحتى مضمار فورمولا 1 في بعض النسخ الخاصة.

أما شركة رايسنغ إس كو (Rising S Co) فتوفّر حلولاً مصممة حسب الطلب، تراوح بين ملاجئ مدمجة في منازل شخصية لمشاهير مثل كيم كارداشيان وتوم كروز، وأخرى منفصلة تحت الأرض، مزوّدة بتقنيات بصمة العين، وأبواب مقاومة للانفجار، ونظم دعم حياة يمكنها الاستمرار لعقد من الزمن.

بعض هذه المنشآت مثل ذي أوبديوم  (The Oppidum) في التشيك، بُني أصلاً في حقبة الحرب الباردة، لكن أعيد تطويره ليصبح أكبر ملجأ خاص في العالم، بمساحة 7.000 متر مربع، يحتوي على سينما، مكتبة، صالات رياضية، وقاعات مؤتمرات، مع أنظمة أمنية مؤتمتة بالكامل.

في كل حالة، تتكرر الرسالة: الأثرياء لا ينتظرون نهاية العالم، إنما يصمّمون ظروف نجاتهم منها، باستخدام أحدث ما توصّل إليه الذكاء الاصطناعي، لا وسيلةَ إصلاح، بل أداةً للهروب.

داخل الملاجئ: الذكاء الاصطناعي في خدمة البقاء

لا تعمل الملاجئ الحديثة كمساحات حماية فقط، بل كمنصات تشغيل ذاتية، تعتمد على بنية مؤتمتة بالكامل تُصمَّم لضمان "الاستدامة الداخلية" في حالات الانقطاع التام عن العالم الخارجي. قلب هذه المنظومة هو الذكاء الاصطناعي.

في مجمع آيري التابع لشركة سيف، تُدار الرعاية الصحية من خلال وحدات تشخيص ذكية مزوّدة بنماذج تعلم آلي قادرة على تحليل المؤشرات الحيوية للسكان، والتنبؤ بالمشكلات الصحية بناءً على أنماط النوم، والتغذية، والحركة.

وبحسب مقال في مجلة فوربس، فإن العيادات داخل آيري تعمل باستخدام وحدات  (SCIF-compliant) وهي اختصار لـ (A Sensitive Compartmented Information Facility (SCIF)) وهي منشأة مؤمنة بشدة مُصممة لمعالجة وتخزين ومناقشة المعلومات الاستخبارية المصنفة ضمن فئة "المعلومات المجزأة الحساسة" (SCI).

تَستخدم الحكوماتُ والوكالات العسكرية والاستخبارية والشركات الدفاعية هذه المنشآتِ، وتخضع لمعايير أمنية صارمة تحمي البيانات الحيوية ببرمجيات مصنّفة أمنياً، وتُشغّل بواجهات ذكاء اصطناعي توفر توصيات علاجية فورية دون تدخل بشري.

أنظمة الطاقة والبيئة كذلك مؤتمتة بالكامل: تعتمد هذه الملاجئ على شبكات هجينة من الطاقة الشمسية والديزل، ويُدير الذكاء الاصطناعي توزيع الحمل الكهربائي حسب الحاجة، ويراقب الاستهلاك، ويضبط التهوية وتكرير المياه وفق متغيرات آنية.

إعلان

في ملاجئ شركة فيفوس (Vivos)، تم تثبيت أنظمة استشعار تتابع جودة الهواء وتطلق إنذارات مبكرة في حال حدوث تسرب كيميائي أو زيادة في تركيز ثاني أكسيد الكربون، مع تشغيل فلاتر هواء متعددة المراحل تلقائيًا، شبيهة بتلك المستخدمة في الغواصات العسكرية.

أما على صعيد الصحة النفسية، فاعتمدت منشآت مثل يوروبا ون (Europa One) وذي أوبيدم (The Oppidum) على محاكاة الضوء الطبيعي باستخدام أنظمة إضاءة LED مبرمجة لتكرار دورة الشمس. وتربط هذه الأنظمة ببرمجيات تتتبع الإيقاع الحيوي للمقيمين، ما يقلّل من آثار العزلة الزمنية (Chronodisruption) التي قد تصيب المقيمين فترات طويلة تحت الأرض.

في الجانب الأمني، ترتبط كل غرفة بأنظمة دخول تعتمد على المقاييس الحيوية: بصمة العين، التعرف على الصوت، وتوقيع الوجه. تُعالج هذه البيانات في وحدات ذكاء اصطناعي محلية دون اتصال سحابي، وذلك لزيادة الحماية السيبرانية.

كما تُستخدم أنظمة رؤية حاسوبية لرصد أي نشاط غير اعتيادي داخل الملاجئ، وهي ذاتها التقنيات المستخدمة في الحماية الميدانية للمراكز النووية.

بعض الملاجئ الأكثر تقدمًا، مثل كازا مودينا (Casa Modena) في ميامي، تُدمج تقنيات مقاومة طبيعية وكهرومغناطيسية، حيث يُطلى البناء بمواد ماصة للموجات الكهرومغناطيسية، ويُدمج بهيكل البيت نظام عزل كهربائي يحمي الأجهزة الحساسة من هجمات النبضات الكهرومغناطيسية (EMP)، وتُراقَب تلك الحالات عبر شبكات استشعار دقيقة تديرها وحدة ذكاء اصطناعي تشغّل بروتوكولات الحماية فور حدوث أي خلل.

في هذه البيئة المؤتمتة، يصبح الذكاء الاصطناعي ليس فقط أداة للبقاء، بل "نظام تشغيل" لحياة مصغرة ومعزولة… حياة تُدار بدون بشر، وتعمل على إبقاء نخبة من البشر داخلها.

هندسة الدفاع الذكي–كيف تُبنى هذه الحصون؟

في عالم التصميم الدفاعي، لا يُبنى شيء عبثًا. كل زاوية وكل جدار في الملاجئ الحديثة ناتج عن حسابات هندسية معقدة تهدف إلى مقاومة أسوأ ما يمكن تخيله: الانفجارات النووية، النبضات الكهرومغناطيسية، الهجمات البيولوجية، وحتى الانهيار السيبراني الشامل. إنها هندسة لا تحمي البناء فقط، بل تحصّن أسلوب حياة بكامله.

تبدأ هذه الحصون بما يُعرف بـالهندسة الانكماشية (Defensive Compact Design)، وهي تقنية معمارية تعتمد على تقليل الأسطح المكشوفة، وتوجيه القوى الناتجة عن الانفجارات نحو الأرض.

معظم هذه الملاجئ تُبنى على عمق لا يقل عن 10 أمتار، باستخدام خرسانة مسلحة بنسب مرتفعة من الفولاذ والكربون، مع طبقات إضافية من الرصاص والتراب المضغوط لعزل الإشعاعات. بعض المنشآت مثل ذي أوبيدم في التشيك تستخدم أبوابًا مقاومة للانفجار، يبلغ وزنها أكثر من 2 طن، وتُغلق في 60 ثانية عبر أنظمة هوائية هيدروليكية.

لحماية الأنظمة الإلكترونية داخل الملاجئ، تُغلف الأسلاك والأجهزة في غرف محمية كهرومغناطيسيًا (EMP Shielded Rooms) باستخدام مواد تمتص أو تعكس النبضات الكهرومغناطيسية الناتجة عن انفجار نووي على ارتفاعات عالية. هذا النوع من التحصين أصبح جزءًا أساسيًا في ملاجئ SAFE، حيث تُدمج الغرف بشبكة ألياف بصرية داخلية غير متصلة بالإنترنت العام، لتفادي الاختراقات أو التجسس عبر الأقمار الاصطناعية.

أما البنية الأمنية، فتقوم على مبدأ الحماية الطبقية (Layered Security Architecture): سور خارجي بنظام استشعار، كاميرات حرارية، أنظمة تحديد حركة، متبوعًا ببوابات حديدية مزدوجة، ونقاط تحقق بيومتري عند كل مدخل. تُدار هذه المنظومة عبر نظام مركزي ذكي، قادر على العزل الفوري لأي قطاع داخلي في حال حدوث خرق أمني، شبيه بتصاميم المخابئ العسكرية المحصّنة.

حتى أنظمة الاتصالات داخل هذه الحصون تُبنى على شبكات مستقلة تعتمد على موجات راديوية قصيرة (HF/VHF/UHF)، وتُربط بواجهات ذكية تتيح لسكان الملجأ التواصل بينهم أو مع نقاط خارجية محددة، ضمن بروتوكولات مُشفّرة تشبه تلك المستخدمة في الفرق الخاصة أو غرف القيادة الإستراتيجية.

إعلان

إن ما يُبنى اليوم تحت الأرض لا يُشبه الملاجئ التي عرفها البشر سابقًا. إنها وحدات دفاع متكاملة، تجمع بين العمارة المعقدة، والهندسة العسكرية، ونظم الحماية الرقمية. وكأن العالم الخارجي لم يعد يستحق الحماية، فاحتُجزت كل أدوات النجاة خلف بوابات ذكية لا تفتح إلا بالعين… أو لمن يملك ثمن العبور.

هل يمكن للذكاء الاصطناعي أن يحميّنا من موظفينا؟

رغم ما توفره الملاجئ الحديثة من حماية وتجهيزات عالية التقنية، إلا أن أحد الأسئلة المركزية التي تشغل المستثمرين في هذا المجال لا يتعلق بالتهديدات الخارجية، بل بالاستقرار الداخلي: هل يمكن للذكاء الاصطناعي أن يحل محل النظام البشري في حال انهيار الدولة؟

في اجتماعات خاصة بمفكرين تقنيين مثل دوغلاس رشكوف، طرح أثرياء وادي السيليكون أسئلة دقيقة عن "الولاء" و"التحكم" في حال فقدان المال قيمتَه. أبرز هذه التساؤلات كان: "كيف يمكن ضمان امتثال فرق الحماية أو الموظفين إذا انهارت البنية الاقتصادية؟" أو بشكل أوضح "لماذا سيحميني حراسي، إن لم يعد هناك فائدة من الدولار الذي ادفعه لهم؟"

في هذا السياق، يُطرح الذكاء الاصطناعي بديلا "منطقيا" لإدارة العمليات: أنظمة أمنية لا تتأثر بالمشاعر أو الأزمات، روبوتات تنفيذية، وخوارزميات تتخذ قرارات بناءً على بيانات وليس على الانتماء أو القيم. ومع ذلك، فإن هذا النموذج المؤتمت يواجه تحديات حقيقية:

أنظمة الذكاء الاصطناعي تعمل ضمن حدود مبرمجة، لكنها لا تُنشئ قوانين جديدة أو تتخذ قرارات قيادية ذات طابع اجتماعي.

في حال نشوب خلاف أو انقسام داخل مجتمع الملجأ، لا يمكن للذكاء الاصطناعي فرض حلول تُراعي الديناميكيات البشرية.

ولاء الأفراد لا يُضمن بأنظمة تقنية فقط، بل يتطلب بنية معنوية ونظام حوكمة، حتى لو كان مصغرًا، يعيد تعريف السلطة في غياب الدولة.

باختصار، الذكاء الاصطناعي قد يحافظ على النظام التشغيلي للملجأ، لكنه لا يستطيع أن يشكّل بديلاً كاملاً من النظام الاجتماعي أو السياسي عند انهياره. وفي هذه البيئات المعزولة، يصبح غياب الدولة اختبارًا لقدرة التكنولوجيا على ملء فراغ أكبر من مجرد الكهرباء أو الأكسجين: فراغ التنظيم البشري.

البشر هم الخطر الحقيقي وليس ال"زومبي"

في مسلسل "الموتى السائرون" (Walking Dead) لم يكن الخطر الحقيقي مخلوقاتِ "الزومبي"، بل الأحياء الذين فقدوا الرادع الأخلاقي بعد انهيار النظام. كانت الملاجئ هي غريزة البقاء التي يتقاسمها الجميع، لا ترفًا شخصيًا. لكن في عالم اليوم، لا نحتاج نهاية عالم متخيلة لنعرف كيف تتكسر القواعد… يكفي أن ننظر إلى الواقع.

في المسلسل لم يكن العدو في الخارج فقط، بل داخل الجدران نفسها. لكن الفارق بيننا وبين المسلسل الخيالي، أننا لا ننتظر انهيار النظام حتى نبدأ القتال على الملاذات الآمنة، فلقد بدأ ذلك فعلا، عندما تحوّلت الملاجئ من مشروع دولة إلى عقار خاص، ومن رمز للأمان الجماعي إلى مرآة للتمييز الطبقي.

الذكاء الاصطناعي اليوم، والأنظمة المؤتمتة التي تدير ملاجئ الأثرياء، ترسم مستقبلًا أكثر حدة: عالم تُدار فيه فرص البقاء لا بالقانون، بل بخوارزميات. وكأن من يمتلك المال، يستطيع برمجته لينجو حتى قبل أن تُقرع صفارات الإنذار.

أخبار متعلقة :