الكويت الاخباري

شحاته السيد يكتب: الأسرار الخفية في الحرب الإسرائيلية الإيرانية - الكويت الاخباري

ليست الحرب المشتعلة بين إسرائيل وإيران مجرد مواجهة عسكرية تقليدية على الأرض، بل هي معركة من طراز فريد، متعددة الأبعاد، تخاض في فضاءات خفية لا تُرى بالعين المجردة: فضاء السيبر، ودهاليز الذكاء الاصطناعي، ومختبرات هندسة التوجيه الإعلامي والنفسي.

حين نُمعن النظر في المشهد الراهن، لا نجد صواريخ وطائرات فقط، بل خوارزميات متقدمة، وبرمجيات تجسّس، ونماذج لغوية عميقة تتلاعب بالرأي العام، مستندة إلى أحدث تقنيات الذكاء الاصطناعي والبيانات الضخمة.

منذ سنوات، والحرب السيبرانية بين إسرائيل وإيران تتصاعد في الخفاء، دون إعلان رسمي. إسرائيل عبر وحدات مثل "8200" المتخصصة في الاستخبارات الرقمية، وإيران من خلال "الجيش السيبراني" التابع للحرس الثوري. لكن ما نشهده اليوم يتجاوز فكرة اختراق أنظمة أو تعطيل منشآت، نحو مرحلة أكثر تعقيدًا، تتمثل في الحروب الهجينة التي تُخاض بأدوات غير مرئية تصيب الأنظمة، وتربك العقول، وتُفكك البُنى المؤسسية.

لم يعد الأمن السيبراني ترفًا أو خيارًا، بل أصبح جزءًا لا يتجزأ من عقيدة الدفاع الحديثة. فالهجمات لم تعد تستهدف البنية التحتية فحسب، بل البنية الإدراكية للمجتمعات، بدءًا من شبكات الكهرباء والمياه، مرورًا بوسائل الإعلام والمستشفيات، وانتهاءً بمنصات التواصل الاجتماعي.

من التحولات المفصلية في هذه الحرب، أن الذكاء الاصطناعي لم يعد أداة تحليل فحسب، بل أصبح فاعلًا مركزيًا في التخطيط والتنفيذ. فأنظمة التعرّف على الأنماط، والتنبؤ بالتهديدات، وتحليل النوايا، أصبحت تستخدم على نطاق واسع لرصد تحرّكات الخصم وتوجيه ضربات استباقية دقيقة.

تكشف تقارير استخباراتية غربية عن استخدام إسرائيل لنماذج هجومية تحمل أسماء مشفّرة مثل "حبيب" و"كهوف الظل"، قادرة على تحليل تحرّكات آلاف الأفراد والآليات في وقت قياسي، واستنتاج مواقع الاستهداف دون تدخل بشري مباشر. في المقابل، طوّرت إيران خوارزميات هجومية دفاعية تسعى إلى كشف الثغرات في الأنظمة الإسرائيلية عبر تحليل البيانات المفتوحة، وتوظيف الذكاء الاصطناعي في حملات إعلامية موجهة.

الحرب اليوم لم تعد تُحسم عبر من يُطلق النار أولًا، بل بمن يكتب الرواية أولًا. وهنا يظهر بوضوح مفهوم "هندسة التوجيه"، وهو علم ناشئ يجمع بين الذكاء الاصطناعي، وعلم النفس الاجتماعي، وتحليل البيانات السلوكية، بهدف تشكيل تصورات الجماهير، والتأثير في توجهات النخبة وصنّاع القرار.

تعمل المنصات المدعومة بالذكاء الاصطناعي على رصد المزاج العام بدقة متناهية، ليس فقط في إيران أو إسرائيل، بل في عواصم القرار العالمي أيضًا. وتُنتج رسائل دعائية مخصصة، تتم مواءمتها حسب السمات الثقافية والسياسية لكل مجتمع. فإذا كانت الصواريخ تُدمّر أهدافًا مادية، فإن هندسة التوجيه تسعى إلى تفكيك البنية الإدراكية للخصم.

تحولت منصات مثل فيسبوك، وتويتر، وتيليجرام، إلى ساحات اشتباك مفتوحة بين الطرفين. كل منصة أصبحت ميدانًا تتقاطع فيه الروايات، وتُدار من خلالها حملات التضليل، والتسريبات، وبث الرعب، وتحفيز الجماهير على اتخاذ مواقف معينة. في إحدى العمليات، استخدمت إسرائيل حسابات مزيفة مدعومة بالذكاء الاصطناعي لتضخيم روايات عن انقسامات داخل الحرس الثوري الإيراني. وفي المقابل، شنت إيران هجمات إعلامية عبر قنواتها السيبرانية، مستهدفة بث أخبار زائفة عن اختراقات في أنظمة الدفاع الإسرائيلية. في هذا السياق، لم يعد الهدف الوصول إلى الحقيقة، بل ضرب الثقة، وتقويض الاستقرار المعنوي والنفسي.

ومن التحولات الأكثر دلالة، أن النماذج التنبؤية المبنية على الذكاء الاصطناعي أصبحت تدخل غرف اتخاذ القرار العسكري. تُحدِّد الأولويات، وتُقيِّم سيناريوهات الرد، وترشد القادة نحو قرارات سريعة وأكثر دقة. الأمر الذي يثير تساؤلات فلسفية عميقة: هل بتنا أمام لحظة تتنازل فيها البشرية عن القرار لصالح الخوارزميات؟ وهل يمكن أن تقودنا تلك النماذج إلى حرب شاملة بسبب تحليلات خاطئة أو بيانات مشوشة؟

هذه التساؤلات تضعنا أمام حقيقة جديدة، وهي أن الحرب الإسرائيلية الإيرانية تحولت إلى مختبر عالمي لاختبار نماذج الحروب المستقبلية، التي لا يُطلق فيها الرصاص، بل تُطلق فيها الحزم البرمجية، وتُستهدف فيها العقول قبل الأجساد.

ضمن هذا التعقيد، تتغير معايير النصر والهزيمة. لم تعد المسألة متعلقة بعدد الضربات أو نوع الأسلحة المستخدمة، بل بمن يملك القدرة على فرض سرديته، والتحكم بالبيانات، وتوجيه الرأي العام، وتعطيل شبكات الخصم سواء كانت رقمية أو فكرية.

نحن أمام حرب ذات طبقات متداخلة: عسكرية، معلوماتية، سيبرانية، وإدراكية. ومن لا يمتلك القدرة على التكيف معها وتطوير دفاعات سيبرانية أخلاقية، سيتحول إلى ضحية عاجزة لا خصمًا محترفًا.

الأخطر في كل ذلك، أن الحرب باتت بلا جبهات واضحة، وبلا هدنة ممكنة. فلا حدود تفصل بين الحرب والسلام في فضاء السيبر، ولا وقت راحة في معركة الإدراك الجماعي. الهجوم قد يأتي في صورة تغريدة، أو فيديو مفبرك، أو تسريب مستهدف، وكل ذلك خلال لحظات معدودة.

أمام هذا الواقع، لم تعد المعركة على الأرض هي الفيصل، بل معركة الوعي، والهيمنة على السياق، والسيطرة على المفاهيم. نحن إزاء صراع لا يُخاض بين جيوش، بل بين خوارزميات، وبين من يملك التكنولوجيا ومن يفتقر إليها.

لذلك، فإن مستقبل الأمن القومي لم يعد مجرد حماية للحدود الجغرافية، بل حماية للحدود الذهنية والنفسية والمعرفية. ولم تعد أدوات الصراع مقتصرة على الدبابات والطائرات، بل امتدت إلى أدوات إنتاج المعنى، وتوجيه السلوك، وإعادة تشكيل الإدراك الجمعي.

وإذا لم تُراجع الدول استراتيجياتها الأمنية لتأخذ في الاعتبار هذه التحولات، فإنها ستبقى خارج معادلة الصراع. فلا يكفي أن نملك الجيوش، إذا كنا نخسر العقول. ولا يكفي أن نمتلك السيادة على الأرض، إذا كنا لا نملك السيادة على البيانات.

تُخبرنا الحرب الإسرائيلية الإيرانية، بكل تفاصيلها الصامتة والصاخبة، أن العالم يتغير بوتيرة أسرع مما نظن. وأن مفهوم الحرب ذاته لم يعد ما اعتدناه. فاليوم، تُدار المعارك في الظل، وتُحسم بالصمت، وتُقرَّر عبر تقارير تحليلية تصدرها خوارزميات غير مرئية.

ذلك هو جوهر الصراع، وتلك هي الأسرار الخفية التي لا تُعرض في نشرات الأخبار، لكنها تصنع العناوين وتحدد مصائر الشعوب.

وفي ضوء هذا التحول، لا بد من بناء نموذج عربي شامل للتعامل مع حروب المستقبل. نموذج يُدرك طبيعة المعركة، ويُوازن بين الأخلاقيات والتكنولوجيا، ويضع الإنسان في قلب المعادلة، لا على هامشها.

فالذكاء الاصطناعي، مهما بلغت قدراته، يبقى أداة في يد من يُحسن استخدامها. وحروب الإدراك، مهما كانت معقدة، يمكن مقاومتها بوعي جماهيري حقيقي، وبسياسات إعلامية ذكية، وبكوادر مدربة قادرة على التحليل والفهم والمواجهة.

ولعل أكبر خطر يهددنا ليس في تفوق إسرائيل أو إيران تكنولوجيًا، بل في بقائنا متفرجين على صراع يُرسم فيه مستقبل الإقليم بأدوات نجهلها. فإما أن نكون فاعلين في تشكيل الواقع الجديد، أو سنبقى أسرى سرديات تُفرض علينا، وخوارزميات تُعيد تشكيلنا دون وعي.

إنها لحظة تاريخية، تتطلب منا التفكير والتخطيط والحسم. فالحرب القادمة، ليست التي تقع، بل التي تُصنع في صمت.

أخبار متعلقة :