لم ييأس رسول الله صلي الله عليه وسلم. ولم يتقاعس عن المهمة التي كلفه الله بها. رغم ما لقي من أهل مكة وأهل الطائف من التكذيب والصد والأذي. فكان عليه الصلاة والسلام يخرج في المواسم والأسواق يعرض نفسه علي القبائل يدعوهم لدين الله. وكانت مواقفهم متباينة.
وفي السنة الحادية عشرة من البعثة النبوية. قدم إلي مكّة من يثرب ستة رجال من الأوس والخزرج للحج فاستجابوا لدعوة الرسول صلي الله عليه وسلم. وبعد سنة عادوا في جماعة من قومهم تضم اثني عشر رجلا بايعوا الرسول صلي الله عليه وسلم بالعقبة - سميت ببيعة العقبة الأولي - علي ألا يشركوا بالله شيئا. ولا يسرقوا. ولا يزْنوا. ولا يقتلوا أولادهم. ولا يأتوا ببهتان يفترونه بين أيديهم وأرجلهم. ولا يعصونه في معروف.
وأرسل معهم مُصعب بن عُمَير رضي الله عنه ليعلمهم القرآن ويفقههم في الدين. وكان يسمي المقرئ.. وأقاممصعبفي بيتأسعد بن زرارة في يثرب. يدعو الناس إلي الإسلام. ويقود الحركة الدعوية الرائدة. وقد نجحت سفارته ودعوته نجاحا عظيما. حتي لم يبق دار من دور الأنصار إلا ودخلها الإسلام.. وقبل حلول موسم الحج التالي - السنة الثالثة عشرة -. عاد مصعب بن عمير إلي مكة يحمل إلي رسول الله - صلي الله عليه وسلم - بشائر الخير. ويقص عليه خبر يثرب. وما فيها من أرض خصبة للإسلام ودعوته..
وفي السنة الثالثة عشرة للبعثة. قدِمَ وفد من الأنصار للحج. واتصلوا بالرسول صلي الله عليه وسلم سرا. وتواعدوا علي اللقاء ليلا بالعقبة.. كان ذلك بعد مضي ثلث الليل الأول. فكانوا يتسللون الرَّجُلَ والرجلين حتي تم عددهم ثلاثة وسبعين رجلاً. ومعهم امرأتان وهما: نُسَيبة بنت كعب من بني النجار. وأسماء بنت عمرو من بني سَلمة. ووافقهم رسول الله صلي الله عليه وسلم هناك وليس معه إلا عمه العباس بن عبدالمطلب وكان لايزال علي دين قومه. جاء يستوثق لابن أخيه. فبايعوا رسول الله صلي الله عليه وسلم علي السمع والطاعة. والنفقة في العسر واليسر. والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ونصرة الدين.
وهكذا جاءت بيعة العقبة الثانية لتتفق في جوهرها مع بيعة العقبة الأولي. فكل منهما إعلان عن الدخول في الإسلام أمام رسول الله صلي الله عليه وسلم. وأخذى للمواثيق والعهود علي السمع والطاعة والإخلاص لدين الله تعالي. والامتثال لأوامر رسول الله صلي الله عليه وسلم.
لقد اقتضت حكمة الله أن يكون أنصار الإسلام الأُول من غير بيئته وقومه. حتي لا يظن أحد بأن دعوة الرسول - صلي الله عيه وسلم - كانت دعوة قومية. ثم إن الله عز وجل قد مهد حياة المدينة وبيئتها لقبول ونصرة هذا الدين. لأن المدينة كانت تعيش ظروفًا خاصة رشحتها لاحتضان دعوة الإسلام. فقد كان التطاحن والتشاحن بين الأوس والخزرج علي أشده. حتي قامت بينهم الحروب الطاحنة التي أنهكت قواهم. مما جعلهم يتطلعون إلي دعوة جديدة. تكون سبباً لوضع الحروب والمشاكل فيما بينهم. ويتآلفون تحت ظلها..
يظهر ذلك في قول أولئك النفر الستة: إنا قد تركنا قومنا ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم. فعسي أن يجمعهم الله بك. فسنقدم عليهم. فندعوهم إلي أمرك. ونعرض عليهم الذي أجبناك إليه من هذا الدين. فإن يجمعهم الله عليك فلا رجل أعز منك.. بالإضافة إلي- أن اليهود كانوا يسكنون المدينة. مما جعل الأوس والخزرج علي اطلاع بأمر الرسالات السماوية. وكان اليهود يهددونهم بنبي قد أظل زمانه. ويزعمون أنهم سيتبعونه. ويقتلونهم به قتل عاد وإرم.. ولذا فبمجرد أن وصلت الدعوة إليهم. قال بعضهم لبعض: تعلمون والله يا قوم. إنه للنبي الذي توعدكم به يهود. فلا تسبقنكم إليه..
فهذه الظروف جعلت لدي أهل المدينة تطلعاً إلي هذا الدين. وعلقت آمالهم به. عسي أن تتوحد بفضله صفوفهم. وتزول أسباب الشقاق فيما بينهم. ولقد كان هذا مما صنعه الله لرسوله. - كما يقولابن القيمفي زاد المعاد -. حتي يمهد بذلك لهجرته إلي المدينة. حيث اقتضت حكمة الله أن تكون هي المنطلق لنصرة الإسلام في أرجاء الأرض كلها.
يمكنك مشاركة الخبر علي صفحات التواصل
أخبار متعلقة :