دمشق- أصدرت الرئاسة السورية، السبت الماضي، مرسوما -رقم (20)- يقضي بتشكيل هيئة مستقلة باسم "الهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية" تُعنى بكشف الحقيقة حول الانتهاكات الجسيمة التي تسبب بها النظام السابق، ومساءلة المسؤولين عنها بالتنسيق مع الجهات المعنية، وجبر الضرر الواقع على الضحايا، وتحقيق المصالحة الوطنية وترسيخ مبادئ عدم التكرار.
ووفق نص المرسوم، فقد عُيّن عبد الباسط عبد اللطيف رئيسا للهيئة، وكُلف بتشكيل فريق العمل ووضع نظامها الداخلي خلال مدة لا تتجاوز 30 يوما، على أن تتمتع الهيئة بـ"الشخصية الاعتبارية والاستقلال المالي والإداري، وتمارس مهامها في جميع أنحاء الأراضي السورية".
في حديث للجزيرة نت، اعتبر المحامي والخبير القانوني عبدو فاروق عبد الغفور أن إنشاء هيئة للعدالة الانتقالية يشكل خطوة قانونية مهمة جدا، يمكن وصفها بأنها بداية لمسار إصلاحي مؤسسيّ يعكس نيات جدية لإحداث تغيير قانوني.
دلالة إيجابية
ورأى المحامي عبد الغفور أن الإطار القانوني الذي أُنشئت بموجبه يحمل دلالة إيجابية، لكنه ما يزال بحاجة إلى تطوير ليتماشى مع المعايير الدولية المعتمدة في تجارب العدالة الانتقالية حول العالم. وأوضح أن "الفكرة بحد ذاتها ضرورية للحد من الثأر الشخصي، وبناء منطق قانوني جامع".
إعلان
وحول ما إذا كان المرسوم يضمن استقلال الهيئة بشكل فعلي، قال إنه نص صراحة على ذلك، وهو مؤشر جيد من الناحية القانونية، مشيرا إلى أن التحدي الحقيقي يكمن في التطبيق العملي، وإلى ضرورة تحصين هذا الاستقلال مؤسسيًا، ومنع تدخل أي جهة تنفيذية في عمل الهيئة "حتى لا نعود إلى دوامة الخلط بين السلطات كما كان سائدا في عهد النظام المخلوع".
وأكد ضرورة أن تُمنح الهيئة صلاحيات واسعة تشمل التحقيق، والوصول إلى المعلومات، والتوصية بالإصلاحات. وقال إن بعض هذه الصلاحيات وردت بالفعل في المرسوم، بينما يحتاج بعضها الآخر إلى توضيح وتعزيز، مشددا على ضرورة إشراك قضاة ومحامين يتمتعون بالنزاهة والشفافية ضمن آليات عملها.
واعتبر المحامي عبد الغفور أن توقيت تشكيل الهيئة يحمل رمزية بالغة للسوريين، خاصة بعد سنوات من انتهاكات النظام الأمني، وأنه يمكن قراءة الخطوة كرسالة سياسية نحو الانفتاح والتهدئة وإعادة التوازن الاجتماعي قبل القانوني. وأضاف أن السياق الإقليمي يشجع عليها في ظل تأكيد دولي متكرر على أهمية العدالة الانتقالية لضمان عدم انزلاق سوريا نحو "اقتتال أهلي، نظرا لتعدد مكوناتها الدينية والعرقية".
وعن مدى قدرة الهيئة على ترميم العلاقة بين الدولة والمجتمع، قال إن الأمر مرهون بمدى جدية التفعيل، مشددا على ضرورة إشراك الضحايا وذوي المغيبين قسريا والمهجرين ومصابي الحرب، ومنظمات المجتمع المدني، لضمان تحقيق نتائج ملموسة تعزز الثقة بالقانون بعد سنوات من الفوضى الأمنية والعسكرية.
ضمانات قانونية
وبشأن استعداد الأطراف المختلفة للتعاون مع الهيئة، خاصة إذا طالت التحقيقات شخصيات نافذة، رأى المحامي عبد الغفور أن النجاح في هذا الجانب يعتمد على "إدارة الملف بذكاء قانوني" يضمن شمولية العدالة دون استثناءات.
وأكد أن وجود ضمانات قانونية ونزاهة في المعالجة، ومنح أعضاء الهيئة حصانة قانونية حقيقية، قد يسهم في تحقيق تجاوب حتى من شخصيات حالية متهمة، قائلا "المتهم بريء حتى تثبت إدانته، ويجب أن يكون القانون كالمنشار، لا يستثني أحدا".
إعلان
وجاء تشكيل الهيئة استنادا إلى الصلاحيات الممنوحة لرئيس الجمهورية، وأحكام الإعلان الدستوري، وإيمانا بضرورة تحقيق العدالة الانتقالية بوصفها ركيزة أساسية لبناء دولة القانون، وضمانا لحقوق الضحايا، وتحقيقا للمصالحة الوطنية الشاملة، وفقا لما ورد في نص المرسوم.
بالمقابل، قال الخبير الحقوقي أحمد جمجمي للجزيرة نت إن الهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية كان من الممكن أن تضمن إشراك الضحايا وذويهم بشكل فعلي، إلا أن ذلك لم يحدث بالشكل المطلوب. وأوضح أن المرسوم منح رئيس الجمهورية صلاحية تشكيل الهيئة وكان من المفترض أن يستغلها بالتواصل مع روابط الضحايا والناجين ومنظمات المجتمع المدني، وأن يضمن تمثيلهم الواضح ضمن نص المرسوم ذاته.
وحسب جمجمي، فإن آليات جبر الضرر يجب أن تأتي بعد كشف الحقيقة وتحديد المسؤولين عن الانتهاكات، مضيفا "من الضروري أن يشمل ذلك الحجز على أموال الجناة المنقولة وغير المنقولة، وتغريمهم لصالح الضحايا. وكان من الأفضل أن يتم إشراك المفوضية السامية لحقوق الإنسان في عملية تشكيل الهيئة، وأن يتم تأسيس صندوق خاص بالعدالة الانتقالية في سوريا، لتعويض المتضررين ماديا ومعنويا".
وأعرب عن قلقه مما اعتبره "محدودية قدرة الدولة السورية" على تحمل أعباء التعويض بمفردها، مؤكدا أن عدد الضحايا يُقدّر بمئات الآلاف، وغالبية الجناة إما لا يملكون أموالا أو هربوا خارج البلاد، مما يستدعي -برأيه- إشراك الأمم المتحدة، وخاصة المفوضية، في إنشاء صندوق دولي لتعويض الضحايا.
تحديات
وبشأن التحديات التي تواجه العدالة الانتقالية، قال الخبير جمجمي إن ضياع الأدلة يُعد من أكبر العقبات، كما أن العبث بها خلال تحرير المقرات الأمنية والسجون مثل صيدنايا، أدى إلى فقدان وثائق مهمة وأجهزة كمبيوتر كانت تحتوي على أرشيف الأدلة.
وشدد على أن مسار العدالة الانتقالية في سوريا لا يمكن أن يكتمل دون أن يشمل جميع الضحايا. كما أكد على ضمان وجود آليات دولية مستقلة تشرف على عملية كشف الحقيقة وجبر الضرر.
إعلان
وطالب الكثير من السوريين الحكومة بالإسراع في إعادة حقوقهم المسلوبة وتعويضهم عن الأضرار التي لحقت بهم، من بينهم محمد المعروف من ريف إدلب حيث "هُدم منزله وتم قطع 300 شجرة زيتون في أرضه من قبل ورشات تتبع لأحد شبيحة النظام السابق".
ويقول المعروف للجزيرة نت إن هذا المسؤول السابق والورشات العمالية التي جلبها معه، هدمت أسقفًا وسلبت أملاكًا بمئات ملايين الدولارات من ريف حماة الشمالي والغربي وريف إدلب الجنوبي والشرقي وريف حلب الغربي، و"هذا مثال صغير عن ضرورة تطبيق العدالة الانتقالية بحق كل من ساهم في مأساة الشعب السوري".
وأكد "أريد تعويضا من كل من شارك وأعطى أمرا بخسارتي لبيتي وأرزاقي، سوف أرفع عليهم دعوى قانونية بعد تشكيل الهيئة الجديدة لأحصل على تعويض منهم".
0 تعليق