يحمل شعار جامعة هارفارد رسمًا لثلاثةِ كتبٍ- منها اثنان أعلى الشعار والثالث أدناه- مكتوبٍ عليها أحرف كلمة "فيريتاس" اللاتينية التي تعني الحقيقة لتصبح هذه الكلمة شعارًا يمثّل رسالة تنشرها الجامعة في مختلف بقاع الكرة الأرضية لتصبح حلمًا لكثير من الطلاب للدراسة يومًا ما فيها.
تعود الجذور الدينية لجامعة هارفارد إلى سنة 1639، حيث جاء اسم الجامعة تخليدًا لأحد رجال الدين البارزين جون هارفارد، وتقديرًا لإسهاماته الكبيرة في تأسيس هذه الجامعة العريقة.
واليوم تتصدر جامعة هارفارد قائمة الدفاع عن الحرية الأكاديمية، وحرية التعبير في ضوء التغيرات والضغوط السياسية لإدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب حيال العديد من المؤسسات الأكاديمية العريقة في الولايات المتحدة.
يحمل الرئيس دونالد ترامب مشروعًا سياسيًا يستهدف معاقل الجامعات الأميركية باعتبارها حواضن فكرية للتيارات اليسارية والليبرالية في الولايات المتحدة الأميركية.
ولطالما اشتكى التيار المحافظ في الحزب الجمهوري الأميركي من تأثير التيارات الليبرالية في مسار العمليات التعليمية الجامعية الأميركية، ولقد جاءت المظاهرات الصاخبة التي شهدتها الجامعات الأميركية بعد حرب 7 أكتوبر/ تشرين الأول سنة 2023 لتزيد من حنق التيارات المحافظة حيال هذه الجامعات.
إعلان
لقد جاءت هذه المظاهرات لتعطي التيار اليميني المحافظ في الولايات المتحدة الأميركية فرصة ذهبية لاستهداف هذه المؤسسات تحت دعاوى مكافحة العداء للسامية ولتحقيق توغلٍ لها داخل هذه المؤسسات.
فحوى رسالة ترامب إلى جامعة هارفارد
أرسلت إدارة الرئيس الأميركي ترامب في شهر أبريل/ نيسان الماضي رسالة من حوالي خمس صفحات إلى جامعة هارفارد تشمل العديد من المطالب يجب على الأخيرة تنفيذها لضمان استمرار الدعم الفدرالي المالي للجامعة والذي تقدر قيمته بأكثر من مليارَي دولار أميركي.
طالبت إدارة الرئيس الأميركي جامعة هارفارد رسميًا بإجراء إصلاحات تشمل طريقة إدارة الجامعة والعملية التعليمية برمتها محددةً فترة زمنية هي نهاية شهر أغسطس/ آب من هذا العام الجاري تقوم خلالها الجامعة بإعادة هيكلة أساسية تتوافق مع مضامين هذه الرسالة.
حدّدت الرسالة أهدافًا معينةً للتغيير في إدارة الجامعة تقوّض من خلالها دور الطلاب والأساتذة الجامعيين- غير المثبتين في نظام الجامعة تثبيتًا كاملًا- في قرارات الجامعة الإدارية.
كما تطالب هذه الرسالة الجامعة بإجراء إصلاحات في طريقة التعيين مبنيةً فقط على معايير الكفاءة العلمية دون أخذ اعتبار الأسس المساعدة في إزالة الفوارق الاجتماعية والعرقية والدينية في التوظيف الجامعي.
هذه الأسس من جملة مبادئ عامة تطبّقها المؤسسات العلمية الأميركية-بالإضافة إلى المعايير الأكاديمية الصارمة- منذ إصدار قوانين الحقوق المدنية في منتصف الستينيات من القرن الماضي لضمان إعطاء الأقليات فرصة للارتقاء العلمي والمهني وإصلاح ما أفسدته السياسات العنصرية السابقة في الولايات المتحدة.
كما استهدفت أيضًا هذه الرسالة عملية القبول في الجامعة على مستويي البكالوريوس والدراسات العليا، حيث طالبت الجامعة بأن تمدّ الحكومة الفدرالية بكل البيانات المتعلقة بالقبول حتى تراجعها الأخيرة. وكذلك إجراء إصلاحات أساسية في عملية قبول الطلاب الدوليين وإخطار وزارة الأمن القومي والخارجية الأميركية بأي نشاطات أو تجاوزات أكاديمية أو غيرها لأي طالب من طلاب الجامعة الدوليين، ممّا سيؤثر تأثيرًا كبيرًا في مبادئ الخصوصية التي يتمتع بها الطالب الجامعي عمومًا في أميركا.
إعلان
كما تشتمل الرسالة أيضًا على مطالب عديدة تتعلق بإجراء إصلاحات في البرامج الأكاديمية بما فيها برامج دراسات الشرق الأوسط وحقوق الإنسان ودراسات الشرق الأدنى وإخطار الجامعة بأي تمييز ضد أي طالب يهودي أو إسرائيلي خاصةً بعد أحداث السابع من أكتوبر/ تشرين الأول عام 2023.
كما طالبت الرسالة بتشكيل هيئة خارجية مستقلة عن الجامعة لمراجعة وتدقيق الإصلاحات الإدارية المتعلقة بتنوع الآراء في أوساط الطلاب وأساتذة الجامعة والإداريين، في نزعةٍ تهدف لتوطيد التيارات المحافظة داخل الجامعة مما سيشكل تدخلًا سافرًا في استقلالية هذه الجامعة الخاصة وحريتها الأكاديمية وقدرتها على الحفاظ على إرثها التاريخي كأول وأعرق جامعة أميركية.
رفض جامعة هارفارد هذه المطالب
رفضت إدارة جامعة هارفارد مطالب الرئيس الأميركي ترامب، مدركةً أن مثل هذا الرفض سيضع الجامعة في مواجهة مباشرة مع إدارة ترامب، وربما يجلب لها المتاعب والصعوبات الكثيرة، مثل تهديد إدارة الرئيس ترامب بإلغاء امتيازات الإعفاء الضريبي للجامعة كعقابٍ قاسٍ لها.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن الجامعات الأميركية الخاصة غير الربحية – مثل جامعة هارفارد، وكذلك المؤسسات الخيرية أيضًا- تخضع لامتيازات الإعفاء الضريبي حتى تمكّنها من القيام بدورها دون تحمل الأعباء الضريبية الباهظة.
كما حاولت إدارة ترامب أيضًا استخدام أسلوب إلغاء تأشيرات الإقامة للطلاب الدوليين كوسيلة للضغط على الجامعات الأميركية، حيث قامت بإلغاء أكثر من ألف تأشيرة إقامة للطلاب الدارسين الدوليين في الولايات المتحدة الأميركية.
ويشكّل الطلاب الدوليون جزءًا أساسيًا لرفد الجامعات الأميركية بالعقول النيرة من كافة أنحاء العالم، وكذلك في رفد ميزانيات الجامعات الأميركية برسوم الطلاب الوافدين التي تعتبر ضعف ما يدفعه الطالب الأميركي العادي.
جاء رفض إدارة جامعة هارفارد مطالب إدارة ترامب في خطاب وجهّه رئيس الجامعة لمجتمعها، مفصّلًا فيه أسباب الرفض، ولكن في الوقت نفسه فقد أقرّ رئيس الجامعة بضرورة عمل إصلاحات تتوافق مع ضرورات المرحلة.
إعلان
وأشار رئيس جامعة هارفارد إلى ضرورة قيام الجامعة ببذل المزيد من الجهد والعمل لمكافحة تنامي ظاهرتَي العداء للسامية، وكذلك الإسلاموفوبيا حيث عصفتا بالجامعة خلال السنوات الأخيرة وفقًا لتقريري لجنتين جامعيتين أنشأتهما الجامعة لتقصي هاتين الظاهرتين خصيصَى. تستند جامعة هارفارد إلى أرضية تاريخية ومالية ثابتة في وقوفها في وجه مطالب إدارة ترامب، وهو أمر قد لا يتوفر لبعض الجامعات الأميركية الأخرى.
القوة المالية لجامعة هارفارد
تنتمي جامعة هارفارد إلى مجموعة ما يعرف برابطة اللبلاب وهي مجموعة من الجامعات الأميركية الخاصة ضاربة الجذور أسّس معظمها رجال دين مسيحيون.
تحتل مجموعة جامعات رابطة اللبلاب الأميركية صدارة الجامعات العالمية المرموقة المتميزة بإسهاماتها العلمية العريقة مما يُعدّ مصدرًا أساسيًا لرفد الاقتصاد الأميركي والعالمي بالاختراعات العلمية الحديثة في شتّى مجالات الحياة المختلفة.
ولذلك ليس من المستغرب أن نجد معظم الحاصلين على جوائز نوبل في المجالات العلمية سواءً كانت في الطب أو الاقتصاد أو الكيمياء وغيرها، هم في الغالب أساتذة في الجامعات الأميركية، ويبلغ عددهم حتى الآن أكثر من أربعمئة عالم أميركي.
ويقف وراء سر هذا التقدم العلمي الهائل مصادر مالية ضخمة تتميز بها هذه الجامعات قلّ نظيرها في العالم. تعتمد هذه الجامعات عمومًا على مصادر تمويل ضخمة تشمل بعضها مصادر سنوية مثل الرسوم الدراسية التي يدفعها الطلاب الدارسون بهذه الجامعات، وعلى سبيل المثال تبلغ تكلفة الدراسة الجامعية السنوية لطالب دراسات البكالوريوس في جامعة هارفارد -بما فيها تكلفة السكن الجامعي- حوالي تسعين ألف دولار أميركي سنويًا.
وتبلغ التكلفة التشغيلية السنوية لجامعة هارفارد أكثر من ستة مليارات دولار أميركي سنويًا، ولك أن تعلم عزيزي القارئ أن الراتب السنوي لرئيس جامعة هارفارد يقدّر بحوالي مليون دولار أميركي؛ أي أكثر من ضعفي الراتب السنوي للرئيس الأميركي.
إعلان
بيدَ أن هنالك مصدرًا ماليًا ضخمًا غير الرسوم الدراسية السنوية تعتمد عليه هذه الجامعات الأميركية العريقة في تمويل الأبحاث والطلاب والأساتذة الجامعيين، حيث تبلغ الأوقاف المالية لجامعة هارفارد حوالي خمسين مليار دولار أميركي.
وهذه الأوقاف المالية هي أموال أوقفها بعض الرجال والنساء الخيرين لصالح الجامعة تستثمر غالبًا في أسواق الأوراق المالية الأميركية، وتعود أرباحها السنوية لتمويل العديد من الأبحاث والأساتذة والطلاب في المجالات المختلفة.
وتبلغ الأوقاف المالية لأكبر عشر جامعات أميركية حوالي 310 مليارات دولار أميركي، تساهم مساهمةً فعالةً في دفع عجلة التطور العلمي والتكنولوجي في الجامعات الأميركية، وفي دفع مسيرة التطور والتنمية في كثير من الولايات الأميركية.
لقد كانت إستراتيجيات توسيع التعليم العالي في الولايات المتحدة الأميركية في منتصف القرن التاسع عشر مبنيةً على ربط الجامعات الأميركية بالتنمية الوطنية، وخاصة في الولايات والأرياف الأميركية، ولذلك تجد مقارّ كبرى الجامعات في مدن ريفية صغيرة تلبّي احتياجات مجتمعاتها في مختلِف المجالات الحياتية.
والجدير بالذكر، أن المسلمين كانوا هم السبّاقون في العالم الحديث في إنشاء مثل هذه الأوقاف، حيث أدت الأوقاف الإسلامية دورًا كبيرًا في تمويل الجامعات الإسلامية العريقة مثل جامعة الأزهر الشريف وغيرها من دور العلم والعبادة والأعمال الخيرية الأخرى التي أوقف المسلمون الكثير من أموالهم فيها.
ويكفي شاهدًا على ذلك أن يرى الزائر عند دخول المدينة المنورة بناية ضخمة مشيّدة -قريبة من المسجد النبوي على صاحبه أفضل الصلوات وأتم التسليم- تحمل اسم أوقاف سيدنا عثمان بن عفان- رضي الله عنه- شاهدةً على عراقة الأوقاف الإسلامية يمتد خيرها ثمارًا طيبةً لأكثر من 1400 عام غرس شجرتها ذلك الصحابي الجليل والخليفة الراشد.
إعلان
ولكن يا للأسف الشديد فقد حدث اضمحلال كبير لدور الأوقاف الإسلامية في المؤسسات العلمية مع ظهور نموذج الدولة الحديثة في الدول العربية بعد الاستقلال ونهاية الحرب العالمية الثانية، فتدهور نتيجة لذلك النشاط والبحث العلمي وكفالة طلاب العلم، كما كان العهد في صدر الإسلام الأول.
وسواء قرّرت جامعة هارفارد المضي قُدمًا في مقاضاة إدارة الرئيس الأميركي، أو الوصول إلى تفاهمات أخرى معها- تجنّبها أروقة المحاكم حتّى لا تفقد الدعم الفدرالي المالي، وكذلك الامتيازات الضريبية التي تتمتع بها- فإن الجامعة مقبلةٌ على فترة حرجة ربما تغيّر مستقبلها وتُنزلها من عرش قمة الجامعات العالمية التي ظلّت تتربع عليه طوال عقود طويلة من الزمان.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
0 تعليق