في يوم بارد من أيام ديسمبر/كانون الأول خلال عطلة عيد الميلاد، وصل والد داليا ساريغ البالغ من العمر 80 عاما إلى منزلها في فيينا بعد عودتها من رحلة تزلج.
كان هناك لاصطحاب أختها غير الشقيقة، التي انضمت إلى عائلة ساريغ في الإجازة.
وكانت مقتنعة بأن هذا سيكون لقاءها الأخير بوالدها، حيث كانت خلافاتهما السياسية على وشك أن تبلغ ذروتها.
قالت للجزيرة الإنجليزية: "ودعته. عانقته". "عندما ودعته، ودعته وأنا أعلم أنني ربما لن أراه مرة أخرى".
![Dalia Sarig has not spoken with her parents for months after she was interviewed on television speaking about Palestine [Wolfgang Berger] - وولفغانغ بيرغر](https://alkhabarkw.com/content/uploads/2025/05/16/23a63d29fe.jpg)
يلتزم والداها بالصهيونية (Zionism – الأيديولوجية السياسية القومية التي دعت إلى إنشاء دولة يهودية، ويعتبرها الفلسطينيون ومؤيدوهم النظام الذي يرتكز عليه معاناتهم).
عرفت ساريغ خلال ذلك اللقاء في ديسمبر/كانون الأول مع والدها أنها تعتزم تنظيم مظاهرة مؤيدة لفلسطين خارج البرلمان في يناير/كانون الثاني ستقوم بتصويرها محطة تلفزيونية محلية. وكانت المجموعة الناشطة التي تنتمي إليها قد رشحتها لمقابلة تلفزيونية. وانطلاقا من استيائها من الإبادة الجماعية الإسرائيلية ضد الفلسطينيين في غزة وتصميمها على "الجهر بالحق"، مضت قدما في ذلك.
"تم بث المقابلة ووصلت فورا إلى عائلتي".
سمعت لاحقا أن والدها، الذي يعيش أيضا في العاصمة النمساوية، أخبر أصدقاءه أنه "بالنسبة له، أنا ميتة".
إعلان
"لكنه لم يتحدث معي عن ذلك قط، ولم يتواصل معي ليخبرني بشيء كهذا. لقد قطع العلاقة ببساطة".
أرسلت لها والدتها البالغة من العمر 77 عامًا، والتي تعيش في ألمانيا، رسالة بعد أسبوع.
"لا أزال أحتفظ بها هنا في هاتفي، تقول: كما تعلمين، لن أقبل نشاطك السياسي. أنتِ خائنة، أنتِ تلطخين العش… وإذا غيرتِ آراءك السياسية، يمكننا العودة إلى طبيعتنا. كوني بصحة جيدة".
لم تتحدث مع والديها منذ ذلك الحين.
الانقسامات العائلية ليست قليلة بين العائلات اليهودية من الولايات المتحدة إلى إسرائيل، لكنها أصبحت أكثر تجذرا منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023.
في ذلك اليوم، قادت حماس، الحركة التي تحكم قطاع غزة، توغلا في جنوب إسرائيل قُتل خلاله 1139 شخصا وأُسر أكثر من 200. منذ ذلك الحين، أسفر القصف الإسرائيلي عن استشهاد أكثر من 61 و700 شخص في القطاع.
قال المؤلف والأكاديمي "إيلان بابيه" (Ilan Pappe)، وهو ناقد بارز للصهيونية، للجزيرة: أعتقد أن إحدى أكثر الظواهر إثارة للاهتمام بين الصهاينة الليبراليين هي حقيقة أنه بينما اتجهت الغالبية إلى اليمين بسبب أحداث السابع من أكتوبر/تشرين الأول، أصبحت أقلية أكثر خيبة أمل تجاه إسرائيل والصهيونية".
"فقدتُ مجتمعي اليهودي"
فر أسلاف ساريغ من النمسا عام 1938، عام الضم من قبل ألمانيا النازية، إلى صربيا. استقروا لاحقا في فلسطين تحت "الانتداب البريطاني" (British Mandate) فيما يُعرف الآن بإسرائيل. ولكن بحلول الخمسينيات، عاد معظم أقاربها إلى النمسا، حيث وُلدت.
وعندما كانت طفلة، احتفلت بالأعياد اليهودية بينما كانت تتعلم عن الصهيونية من كبار السن.
قيل لها أيضا إن الفلسطينيين "هم الأعداء، يريدون قتل جميع اليهود… وأن اليهود الذين يعيشون هناك (في إسرائيل) يريدون السلام، لكن العرب لا يريدونه".
في سن الـ18، انتقلت إلى إسرائيل، حيث انضمت، بتشجيع من والديها، إلى حركة شبابية صهيونية يسارية.
إعلان
على مدى 13 عاما في إسرائيل، انضمت إلى "كيبوتس" (Kibbutz – مستوطنة زراعية تعاونية)، وخدمت في الجيش الإسرائيلي في وظيفة مكتبية، وتزوجت. لكن نظرتها للعالم بدأت تتغير أثناء دراستها للسياسة وتاريخ الشرق الأوسط في "جامعة حيفا" (Haifa University).
هناك التقت أستاذا فلسطينيا وأصبحت فيما بعد ناشطة من أجل الحقوق الفلسطينية.
"بدأ الأمر على عشب في أمسية مع أستاذي الفلسطيني، عندما روى لي قصة عائلته التي نزحت من قرية صغيرة".
قالت: "فهمت أن ما قيل لي (الرواية الصهيونية) خاطئ. بدأت أفكر كيف يمكن أن يشعر، كيف يشعر هو، أو كيف يمكن أن أشعر كفلسطينية تعيش في دولة يهودية طُرد منها أسلافي".
بالعودة إلى النمسا، كانت عائلتها تتجادل معها في التجمعات، ويتفقون على عدم التحدث مرة أخرى عن فلسطين والسياسة الإسرائيلية، ثم ينكثون بوعودهم، ويتشاجرون مرة أخرى.
في عام 2015، تخلت عن جنسيتها الإسرائيلية كبادرة ضد الصهيونية.
قالت ساريغ عن تبرؤ بعض أفراد عائلتها منها: "هذا يجعل نشاطي أسهل.. لقد فقدت مجتمعي اليهودي لأنهم اعتبروني، في أحسن الأحوال، غريبة الأطوار، وفي أسوأ الأحوال، خائنة".
ولكن، كما يقول الخبراء، يمكن أن يكون لانقطاع المرء عن عائلته أثر سلبي على الصحة النفسية.
"نظرتي لم تتغير بشكل كبير منذ 7 أكتوبر"
وفقا لفيصل شريف، عالم الأعصاب وطالب الدكتوراه في "جامعة أكسفورد" (University of Oxford)، أظهرت دراسات تصوير الدماغ أن "تجربة العزلة الاجتماعية تثير نشاطا في مناطق الدماغ التي تضيء عادةً استجابة للألم الجسدي".
وقال للجزيرة: "بعبارة أخرى، الألم الاجتماعي ليس مجازيا، إنه حقيقي بيولوجيا".
وقال إن العائلات غالبا ما تشكل "ثقافات مصغرة" بقواعدها ومواقفها الخاصة بشأن القضايا السياسية.
الخيانة التي يشعر بها المرء عندما يصبح الحب والقبول مشروطين بالصمت أو التواطؤ في الإبادة الجماعية يمكن أن تكون مؤذية للغاية. في سياق غزة، يضيف ذلك طبقة إضافية من الصدمة: ليس فقط أن المرء يشهد معاناة جماعية، ولكنه يدفع أيضا ثمنا شخصيا لرفضه غض الطرف.. يؤدي هذا إلى إجهاد وقلق طويل الأمد، يمكن أن يصل إلى مستويات مرضية سريرية
وأضاف: "الخيانة التي يشعر بها المرء عندما يصبح الحب والقبول مشروطين بالصمت أو التواطؤ في الإبادة الجماعية يمكن أن تكون مؤذية للغاية. في سياق غزة، يضيف ذلك طبقة إضافية من الصدمة: ليس فقط أن المرء يشهد معاناة جماعية، ولكنه يدفع أيضا ثمنا شخصيا لرفضه غض الطرف.. يؤدي هذا إلى إجهاد وقلق طويل الأمد، يمكن أن يصل إلى مستويات مرضية سريرية".
إعلان
للحفاظ على العلاقات، قال إن العائلات بحاجة إلى أن تقود الحوار "بالفضول، وليس المواجهة".
"خاصة عندما يكون الموضوع مؤلما مثل الحرب أو الإبادة الجماعية، فإن الحقائق وحدها لن تحرك الناس. تسمية المشاعر الكامنة تحتها، مثل الخوف أو الذنب أو الحزن، غالبا ما تفتح مساحة أكبر لحوار حقيقي".
إجراء مثل هذه المحادثات ليس بالأمر السهل.
قال جوناثان أوفير، وهو موسيقي وُلد في كيبوتس إسرائيلي وهاجر إلى الدانمارك في أواخر التسعينيات، إنه في عام 2009 أدرك أنه "قد تم تلقينه بالفعل دعاية أغفلت وجهة نظر فلسطينية كاملة". قرأ كتاب بابيه "التطهير العرقي لفلسطين"، واصفا تلك التجربة بأنها "نقطة تحول" بالنسبة له.
![Jonathan Ofir, a musician and writer, lives in Denmark and has family in Israel [Courtesy: Jonathan Ofir] - جوناثان أوفير](https://alkhabarkw.com/content/uploads/2025/05/16/f3204c6ef6.jpg)
في نفس الوقت تقريبا، قرأ لكتاب يهود وفلسطينيين آخرين "تحدوا الرواية الصهيونية".
"لكن لم أشارك هذا علنا ولم أشاركه مع عائلتي أيضا".
ومع ذلك، في عام 2014، خلال حرب إسرائيل على غزة (الثالثة خلال 7 سنوات) قال إنه شعر بالثقة الكافية للتعبير عن آرائه النقدية "للخارج وعلانية".
استشهد أكثر من ألفي فلسطيني بينهم 551 طفلا خلال الصراع الذي دام 50 يوما.
لجأ إلى فيسبوك لنشر صورة لإسرائيليين مجتمعين على تلة بالقرب من "سديروت" (Sderot) يشاهدون غزة وهي تحترق، وهي صورة ظهرت في صحيفة "نيويورك تايمز" (The New York Times).
سرعان ما كتب له أحد أقاربه رسالة بريد إلكتروني اختتمها بالتوصية بأن "يتوقف أوفير عن النشر على الإنترنت".
"أصبح هذا نقاشا محتدما، لكنه توقف بسرعة كبيرة جدا".
بعد سنوات، علم أن عائلته في إسرائيل قررت تجنب الحديث عن السياسة بحضرته "حتى لا تضفي الشرعية على آرائي السياسية"، حسب قوله.
وبعد هجوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول، اطمأن على عائلته الممتدة التي تعيش بالقرب من موقع الهجوم. لكن التوغل لم يغير موقفه.
إعلان
"نظرتي لم تتغير بشكل كبير. لكن شيئا ما تغير في المجتمع الإسرائيلي. وبهذا المعنى، يمكن القول إننا قد نكون أكثر تباعدا سياسيا".
"هذه هي القضية الحقيقية الوحيدة في الوقت الحاضر"
دانيال فريدمان، 44 عاما، المقيم في هولندا، نشأ في جنوب أفريقيا على يد والده، ستيفن، وهو أكاديمي وناقد صريح للصهيونية، ووالدته التي كانت جزءا من دائرة من نشطاء مناهضة "الفصل العنصري" (Apartheid).
بينما لا يزال والده مناهضا للصهيونية، قال فريدمان إنه ووالدته يتشاجران بشكل متزايد حول إبادة إسرائيل الجماعية في غزة منذ أواخر عام 2023.
قال: "هذه هي القضية الوحيدة حقا في الوقت الحاضر" التي تؤثر على المحادثات والروابط داخل بعض المجتمعات اليهودية.
كان أحد خلافاتهم السابقة يتعلق بالادعاءات المفندة بأن المقاتلين الفلسطينيين اغتصبوا نساء خلال توغل السابع من أكتوبر/تشرين الأول. وبعد عدة خلافات غير مريحة، غالبا ما كانت تُخاض عبر تبادل روابط صحف مختلفة لدعم حججهم على واتساب، اتفقا على التوقف عن الحديث عن السياسة.
قال فريدمان: "أنا أحبها، لكن ما أعاني منه هو أنني فقدت الكثير من الثقة بها".
خلال حرب إسرائيلية سابقة على غزة، وقعت والدته على عريضة تدعو إلى وقف إطلاق النار، وهي خطوة أدت إلى رفضها من قبل بعض أفراد عائلتها. قال: "أعتقد أن ذلك كان له تأثير كبير جدا". "لقد اتجهت نوعا ما إلى اليمين".
وقال إنه يتفهم أنه بالنسبة للبعض، فإن اتخاذ موقف يعني المخاطرة بفقدان دعم مجتمع مقرب. ومع ذلك، اختار هو "إخراج الكثير من الناس من حياتي عمدا" بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول، حسب قوله.
بالعودة إلى فيينا، تنشغل ساريغ بتنظيم مؤتمر للمناهضين للصهيونية من اليهود في يونيو/حزيران، يضم متحدثين مثل ستيفن كابوس، وهو ناجٍ من "الهولوكوست" (Holocaust – الإبادة الجماعية لليهود على يد النازيين) مقيم في المملكة المتحدة، والمذيعة والمعلقة الأميركية كاتي هالبر، وروني باركان، وهو ناشط إسرائيلي يهودي. ومن المتوقع أن يحضر بابيه أيضا.
إعلان
مع استمرار عمليات القتل في غزة، قالت إن تركيزها ينصب على الفلسطينيين الذين يحاولون النجاة من النيران الإسرائيلية.
قالت ساريغ: "أنا لست الضحية".
0 تعليق