إلى منزل يحمل الرقم 74 في شارع الصفا بقرية بيت صفافا الواقعة جنوب القدس، اتجهت الجزيرة نت للقاء الطبيب محمد جاد الله الشاهد على تقسيم هذه القرية بسياج شائك جثم على أراضي الأهالي في السنوات الواقعة بين عامي النكبة والنكسة.
ففي منتصف أبريل/نيسان 1949 وُقّع اتفاق "رودس" لوقف إطلاق النار، وتم على إثره تقسيم القرية بشريط حدودي فصل أبناء ومنازل العائلة الواحدة إلى قسمين إسرائيلي وأردني.
وأطلقت قوات الاحتلال الإسرائيلي الرصاص الكثيف من الأسلحة الأوتوماتيكية لمدة 15 دقيقة خلال اجتياحها بيت صفافا معززة ببضع مدّرعات، بعد رفض المخاتير وقيادة الحامية التوقيع على سلخ جزء من القرية وضمه للدولة "اليهودية الحديثة العهد".
وبعد دخول القرية بيوم واحد، شرعت القوات الإسرائيلية بنصب الأسلاك الشائكة التي اخترقت وقسمت شارع بيت صفافا الرئيسي والقرية إلى قسمين طبقا لاتفاق الهدنة بين الأردن وإسرائيل والمعروف بـ"اتفاق رودس".
وكان الدافع الأساسي لضم جزء من بيت صفافا هو طمع الاحتلال في خط السكك الحديدية الذي يمر من القرية ويربط القدس بمدن السهل الساحلي، وهكذا أصبح القسم الذي تمر منه سكة الحديد تحت الحكم الإسرائيلي والآخر تحت الحكم الأردني حتى عام 1967 الذي احتلت فيه إسرائيل شرقي القدس.

"أول حدث صارخ"
قبل دخولنا إلى منزل الطبيب جاد الله الذي رأت عيناه النور أواخر عام 1941، حرص هذا المسن على إطلاعنا على موقع المنزل الذي ولد فيه والذي كان لا يبعد عن الشريط الحدودي سوى 300 متر فقط.
إعلان
وبمجرد الدخول إلى المنزل ونبش ذاكرته عن أكثر حقب هذه القرية إيلاما، انسابت على لسانه قصص ألم كثيرة عاشها وأسرته النووية وعائلته الممتدة في ظل التقسيم القسري.
وبدأ حديثه بالقول "أنتم تضعونني في منطقة الذاكرة البعيدة التي تبقى حية مع كل إنسان، فما سأقوله وكأنني أراه أمام أعيني الآن.. وأودّ البدء من أول حدث صارخ عشته ويعود لفبراير/شباط 1947، عندما هاجمت العصابات الصهيونية بالقنابل والرصاص المنزل الذي كانت تعيش فيه شقيقتي المتزوجة".
وهرع أهالي القرية -ومن بينهم محمد ووالده عيسى جاد الله- إلى موقع الحدث، وشهدوا على استشهاد شاب من أبناء القرية بسبب ذلك الهجوم، وهو واحد من معارك ليلية كانت تندلع بشكل يومي على أراضي بيت صفافا التي تحاذيها مستوطنات.

القرية لم تسقط في معارك النكبة
وأشار هذا المسن إلى أن القرية لم تسقط إبان معارك النكبة لأن جميع أبنائها من الشباب والرجال القادرين على حمل السلاح اشتروا البنادق والرصاص على حسابهم الخاص وانخرطوا في المعارك، بينما نزحت النساء والأطفال وكبار السن بشكل مؤقت إلى مدينة بيت جالا المجاورة لمدة لم تتجاوز عاما ونصف العام.
ورغم النزوح القسري، يذكر جاد الله أنه كان يرافق والدته مريم في رحلة يومية إلى بيت صفافا للتزود ببعض الغذاء المخزن أو أدوات الطبخ أو المتاع، مؤكدا أن أحدا من الأهالي لم يتوقع أن كيانا سينشأ على أرضه، وأن المعارك ستفضي حتما إلى اندحار الاحتلال.
لكن الرياح جرت بما لا تشتهيه سفن أهالي بيت صفافا، ففي نهاية عام 1948 بدأ الهمس بينهم عن أن القرية ستسلم للكيان المحتل الجديد، حتى أشيع الخبر عن معاهدة "رودس". وفي اليوم الذي التقى فيه الطرفان الأردني والإسرائيلي وسط القرية، رافق محمد والده كما معظم الأهالي إلى هناك.
إعلان
وقال جاد الله "قدمت مركبة عسكرية إسرائيلية ترجل منها ضابط التقى بآخر أردني وتبادلا الحديث، وبدأت بعدها إجراءات الأمر الواقع من خلال الشريط الحدودي الذي فرضت إسرائيل حدوده بما يضمن لها السيطرة على خط سكة الحديد".
وكان عرض الشارع الرئيسي بالقرية لا يتجاوز 4 أمتار مربعة ابتلع ما يطلق عليه باللهجة الشعبية "الشيك" نحو مترين من عرض الشارع وفقا لجاد الله، وهذا ما منع التواصل نهائيا بين الأهالي في الشطرين الأردني والإسرائيلي.
وأصبحت ثلثا مساحة أراضي القرية تحت حكم الاحتلال الإسرائيلي مع ثلث السكان فقط، وحُصر ثلثا السكان في الجانب الأردني من الحدود مع ثلث مساحة الأراضي فقط، ووفق التقسيم أصبحت عائلة جاد الله في الجانب الأردني من الحدود ومعظم أراضيها في الجانب الإسرائيلي منها.
معاملة قاسية
وعند سؤاله عن تفاصيل الحياة اليومية إبّان فترة التقسيم، بدأ إجابته بالقول "هذا سؤال صعب، ولكي أكون دقيقا فإن معاملة الأردنيين لنا كانت قاسية وتشبه ما قرأته عن الجيش الانكشاري العثماني وكيف كان يعامل الفلسطينيين".
وحُرم الأهالي في الشق الأردني من وجود أي بقّالة لشراء احتياجاتهم منها، وكان عليهم التوجه إلى مدينة بيت لحم للتسوق.
ولكن قبل الانطلاق كان عليهم وفقا لجاد الله التوجه إلى "الكاتب" الذي يقول له المواطن "سأشتري كيلو من الطحين وآخر من العدس وكيلوغرامين من السكر و250 غراما من اللحم، وبعدما تُقدم قائمة المشتريات إلى الضابط الأردني إما أن يوافق عليها أو يرفضها أو يشطب منها كإزالة كيلو من السكر والإبقاء على الآخر.
"كان ادعاء العساكر الأردنيين آنذاك بأن أهالي بيت صفافا يشترون أكثر من حاجتهم ليزوّدوا بها العدو (في إشارة لجيش الاحتلال) وفي طريق العودة من بيت لحم يجب أن يتوقف المشتري عند الحاجز العسكري الأردني قبل دخول القرية، وفي حال كان العسكري أميّا فلا يقرأ قائمة المشتريات ويقارنها بما تم إحضاره، أما إذا كان يجيد القراءة فيفتش كل ما يحمله الأهالي ويتلف كل ما لم يرد في القائمة أمام أعينهم." كما يقول الطبيب المقدسي.
ولم تقف المراقبة عند هذا الحدّ، بل كان الأهالي يستمعون داخل منازلهم إلى إذاعة "صوت العرب" خفية آنذاك، وكلما مرّت دورية عسكرية أردنية بجوار المنازل ليلا يُعتقل من يستمع لصوت هذه الإذاعة من منزله فورا.

حزن دفين
ولم يكن إحياء المناسبات أو المشاركة في الأفراح والأتراح أمرا أقل قسوة على أهالي هذه القرية، وفي ذاكرته يروي جاد الله كيف أن الأهازيج الشعبية التي ارتبطت في أفراح بيت صفافا إبان التقسيم كانت تعبر عن حزن دفين وعميق.
إعلان
ويقول جاد الله "لأننا بتنا لا نفرح سوى من خلال أوامر عسكرية، وبمراقبة من الضباط المتمركزين على الجانبين.. أما في الجنازات فكان يسود الصمت والبكاء المتبادل خلال السير على جانبي الشريط".
ويروي هذا الطبيب سيلا من الحكايات التي عاشها منذ عام 1949 حتى مغادرته البلاد في أغسطس/آب 1960 نحو الكويت التي عمل فيها لمدة 5 أعوام قبل أن ينطلق برحلته إلى إسبانيا لدراسة الطب، ثم التخصص بمجال جراحة القلب والرئتين.
وعاد جاد الله عام 1975 إلى القدس، ومُنع من السفر، فاستأنف عمله كطبيب في مستشفى المقاصد لعقود طويلة، وبعد تقاعده بدأ العمل كطبيب متطوع في عيادات المسجد الأقصى، وفي المركز الصحي العربي بالقدس، وما زال على رأس عمله حتى يومنا هذا.
0 تعليق