اللغة العربية لم تجد من يأخذ بيدها ويُقيلها من عثرتها لتلحق بركب اللغات العالمية، في الوقت الذي تأتي فيه بعض الجماعات فتستدعي لغتها من غياهب النسيان وتنفخ فيها حتى تصبح لغة تُقيم على أكتافها دولة، فلا دولة بلا لغة، ومن يُفرِّط في لغته فقد فرط في وجوده.
وها هي الفرصة الأخيرة ليلحق العرب بالعربة الأخيرة في قطار الذكاء الاصطناعي المنطلق بأقصى سرعة نحو المستقبل، واللحاق بهذا الركب يتطلب تضافر الجهود العربية مجتمعة لتوفير قاعدة بيانات كاملة وصحيحة للغة العربية للوصول إلى مخرجات بحث قابلة للتطبيق.
وقبل أسبوعين، انطلقت فعاليات المؤتمر السنوي لمجمع اللغة العربية بالقاهرة في دورته الـ91 بعنوان: "إثراء اللغة العربية: الوسائل والغايات"، وكان للذكاء الاصطناعي وجود قوي وواضح في جلسات المؤتمر، حيث ظهر ذلك جليّا على خريطة المؤتمر في لجان المجمع الـ30.
وبدا واضحا هذا الاهتمام الكبير من المسؤولين في المجمع بقضايا تطبيقات الذكاء الاصطناعي، وتم تأسيس لجنة خاصة بعنوان "اللغة العربية والذكاء الاصطناعي"، على رأسها عالم الحاسبات الكبير الدكتور محمد فهمي طلبة، عميد كلية الحاسبات ونائب رئيس جامعة عين شمس السابق، وعضو المجمع اللغوي بالقاهرة، الذي اختار لهذه اللجنة نخبة منتقاة من علماء اللغة والحوسبة من أساتذة الجامعات.
إعلان
ثورة الذكاء الاصطناعي
التقت الجزيرة نت الدكتور محمد فهمي طلبة، رئيس لجنة اللغة العربية والذكاء الاصطناعي بالمجمع اللغوي بالقاهرة، وناقشته حول استخدامات تطبيقات الذكاء الاصطناعي في اللغة العربية.
قال الدكتور طلبة: "خلال السنوات الثلاث الأخيرة، بدا العالم وكأنه في غفوة أهل الكهف، حتى استيقظ من نومه على ما تشبه الثورة في مجالات تطبيقات الذكاء الاصطناعي، وما حدث كان أشبه بالصدمة؛ إذ أصبحنا كل صباح نستيقظ على سيل متدفق من تطبيقات الذكاء الاصطناعي، ليس في اللغة فقط، بل في التكنولوجيا، والصناعات العسكرية والمدنية".
خلال السنوات الثلاث الأخيرة، بدا العالم وكأنه في غفوة أهل الكهف، حتى استيقظ من نومه على ما تشبه الثورة في مجالات تطبيقات الذكاء الاصطناعي، وما حدث كان أشبه بالصدمة؛ إذ أصبحنا كل صباح نستيقظ على سيل متدفق من تطبيقات الذكاء الاصطناعي، ليس في اللغة فقط، بل في التكنولوجيا، والصناعات العسكرية والمدنية
وتابع القول أن البشرية أصبحت في خطر حقيقي في مواجهة الآلات الذكية، "فالموبايل في يدك نتاج تطبيقات حديثة للذكاء الاصطناعي، وكذلك السيارات الذكية، والطائرات الذكية بدون طيار، والقنابل الذكية. وتحولت شركات مثل مايكروسوفت وغيرها إلى مصانع للذكاء القاتل، بتوجيه أشد الأسلحة عنفا وتدميرا في التاريخ. وقد شاهدنا هذا جليّا في حرب غزة المجنونة، حيث عملت آلة القتل الإسرائيلية بكل حقدها البشري للقتل والإبادة".
ومنذ 3 سنوات، يقول الدكتور طلبة، "قام المجمع اللغوي بالقاهرة بتأسيس لجنة اللغة العربية والذكاء الاصطناعي، وبمساعدة مجموعة من الخبراء المتميزين استطعنا إنجاز كثير من الأعمال في خدمة المجمع ورواده، بل وخدمة اللغة العربية، عبر الوصول إلى تطبيقات جديدة للذكاء الاصطناعي داخل المجمع".
أما عن تطويع الذكاء الاصطناعي لخدمة اللغة العربية، فيؤكد الدكتور أن هذا الأمر ليس سهلا، إذ يتطلب الوضع تضافر الجهات السيادية العربية للدخول إلى عصر الذكاء الاصطناعي، كما يصفه البعض. والأمر أكثر صعوبة بالنسبة للغة العربية، فاللغة العربية تحتوي على 12 مليون كلمة، تليها اللغة الإنجليزية بمعدل 600 ألف كلمة، أي أن مجموع كلمات اللغة العربية يعادل 20 ضعف كلمات اللغة الإنجليزية، ولهذا يصبح تطبيق الذكاء الاصطناعي مع اللغة العربية أكثر صعوبة من أي لغة أخرى في العالم.
إعلان
وأضاف أنه إلى جانب هذه التحديات فإن تطبيق الذكاء الاصطناعي في اللغة العربية بدأ متأخرا عن كثير من اللغات في العالم، وبالتالي هناك تحد حقيقي أمام مجمع اللغة العربية لعلاج هذه النقاط من منظوري التوجهات البحثية والتوجهات التطبيقية؛ فإذا كانت مخرجات البحث قابلة للتطبيق، فإنها ستدعم اللغة العربية بشكل واضح.
وأكد طلبة أنهم قد بذلوا محاولات مضنية لاستخدامات الذكاء الاصطناعي في اللغة العربية، فيقول "إن مجمع اللغة العربية بالقاهرة بدأ في رقمنة المستندات والمراجع التي مر عليها عشرات السنين وتحويلها للاستخدام السريع على محركات البحث العالمية. ومن خلال المواد المرقمنة، نستطيع أن ندخل في مرحلة جديدة لخدمة اللغة والثقافة العربيتين، لأن ما تبشر به تطبيقات الذكاء الاصطناعي يفوق الخيال، ويسهل إدماج اللغة العربية كلغة مهمة بين لغات العالم".
صعوبة الترجمة عن العربية
وحول الصعوبات التي تواجه ترجمة اللغة العربية إلى اللغات الأخرى والعكس، قال الدكتور فهمي طلبة: "لقد وصلت الترجمات الآلية للغات الأخرى إلى مستويات عالية للغاية، وهناك تطبيقات لترجمة اللغة العربية على محركات البحث العالمية وغيرها، لكنها ترجمات غير مكتملة. ويرجع ذلك إلى طبيعة وتفرد اللغة العربية، مما يجعل الصعوبات في مجال الترجمة من اللغات الأخرى وإليها كبيرة، وتتمثل هذه الصعوبات في عدم توافر قاعدة بيانات كاملة وصحيحة، وهو أمر يحتاج إلى تضافر الجهود العربية لإنجازه".
كيف تعامل الذكاء الاصطناعي مع النص العربي في سياقاته المختلفة، حيث تحتمل الكلمة الواحدة عدة معان مختلفة؟
لقد أحدث الذكاء الاصطناعي تقدما ملحوظا في قدرة الأنظمة على فهم القواعد اللغوية وتطبيقها بشكل يمكن من خلاله تحليل النصوص العربية بعمق، سواء تلك المتعلقة بالمعاني أو بالسياقات النحوية.
إعلان
ويمكن اليوم تحويل الكلام المنطوق بالعربية إلى نص مكتوب عبر رقمنته، والعكس، حيث يستطيع الذكاء الاصطناعي من خلال الصوت تسجيل نص مكتوب.
ويمثل السياق اللغوي للكلمات تحديا إضافيا، إذ إن الكلمة الواحدة في اللغة العربية قد تحمل معاني مختلفة بناء على السياق الذي ترد فيه، ولا تُفهم على حقيقتها إلا من خلال موقعها في الجملة ومن خلال تشكيلها. وقد أحدث الذكاء الاصطناعي تقدما في قدرة الأنظمة على فهم هذه القواعد وتطبيقها، مما يتيح تحليل النصوص العربية واستخلاص المعاني الدقيقة من خلالها.
ولكي نصل إلى نتائج تعزز من مكانة اللغة العربية، يجب أن تكون أنظمة الذكاء الاصطناعي قادرة على فهم النصوص ضمن سياقات متعددة، وتحليل النص بذكاء لاستنتاج المعنى الأمثل، وذلك عبر قاعدة بيانات وافية تشمل جميع جذور وعناصر اللغة العربية، مع القدرة على تشكيل النص آليا لفهمه بشكل صحيح، بخلاف اللغات الأخرى التي لا تعتمد على التشكيل.
ومن خلال تطبيقات الذكاء الاصطناعي، استطعنا دعم الصم والبكم باللغة العربية، بتحويل الإشارة إلى كلام مكتوب يُفهم، أو العكس بتحويل الكلام إلى إشارة.
وعلى موقع المجمع، تمت الاستعانة بتطبيقات الذكاء الاصطناعي في تعليم وتعلم اللغة العربية لغير الناطقين بها، وأيضا للناطقين بها في تعلم اللغات الأخرى.
ومن خلال الحاسوب، يمكن للمتعلم تحويل الكلام بطريقة يستوعبها ويتفاعل معها، وقد توصلنا إلى تطوير برامج وتطبيقات لتعلم النطق الصحيح للقرآن الكريم، تقوم بتصحيح أخطاء القارئ وتدريبه على النطق الصحيح.
وبهذا نرى أن مجالات تطبيق الذكاء الاصطناعي في اللغة العربية كثيرة جدا، لكنها تحتاج إلى دعم كامل من المؤسسات التعليمية، ودعم قوي من الدولة.
ملايين المصطلحات على الشبكة
ولكن ما الذي أضافه الذكاء الاصطناعي لخدمة مستخدمي اللغة العربية من خلال الخدمات التي يقدمها مجمع اللغة العربية بالقاهرة؟
إعلان
على مدى أكثر من 90 عاما كان مجمع اللغة العربية في خدمة اللغة العربية، وجدنا أن هناك جهودا وآثارا وأفكارا لم يتم الانتفاع بها، وأصبحت مركومة في المخازن والأدراج ولا يتم الاستفادة بها، حيث أصدر مجمع اللغة العربية بالقاهرة 220 ألف مصطلح لغوي جديد ومستحدث في الفترة من 1936-1964، وبلغ عدد المصطلحات التي اعتمدها المجمع سنة 2004 عدد 170 ألف مصطلح، وفي سنة 2024 بلغ عدد المصطلحات التي أصدرها المجمع أكثر من 250 ألف مصطلح في شتى العلوم.
كل هذه الثروة العلمية من المصطلحات والمراجع والمحاضرات والجلسات التي عقدها المجمع على مدى 90 عاما يتم الآن رقمنتها ورفعها على شبكة الإنترنت وسيتم الاستفادة بها من قبل المستخدمين في جميع أنحاء العالم من خلال موقع المجمع اللغوي ومخرجاته.
ومن خلال موقع مجمع اللغة العربية بالقاهرة، يستطيع المتجولون الاطلاع على كم هائل من المصطلحات في مختلف العلوم والوقوف على معرفة أي كلمة ومشتقاتها وترجمتها لصور مختلفة من خلال تشكيلها النحوي والصرفي السليم، واستطعنا رقمنة المستندات بتحويل المحتوى إلى كلمات منطوقة من خلال تصميم المواقع باستخدام الذكاء الاصطناعي بمساعدة نخبة مختارة من الفنيين، وانتهينا من إنجاز 8 مؤتمرات، وفي طريقنا للانتهاء من باقي المؤتمرات والمحاضرات والجلسات الفكرية.
وأشار إلى أهمية استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي في فهم المخطوطات العربية وتحليلها، ومن خلال هذه التقنيات يمكن استخلاص معلومات قيمة ومفيدة من هذه المخطوطات بطريقة سريعة وفعالة، حيث توفر تطبيقات الذكاء الاصطناعي في هذا الإطار تقنية "التحويل النصي الضوئي" (OCR)، الخاصة بتحويل نسخ ورقية من المخطوطات العربية إلى نسخ رقمية يتم تحليلها بشكل آلي، ويضاف إلى ذلك أن تقنيات الذكاء الاصطناعي تُستخدم في فهم النصوص والتحليل اللغوي للمخطوطات العربية، وهذا يساعد في فهم معاني النصوص وتحليلها بشكل أكبر دقة وتفصيل.
0 تعليق