الحبار الضخم هو أحد أكثر حيوانات الطبيعة مراوغة، اكتشف أول مرة قبل 100 عام، ومنذ ذلك الحين لم يتمكن العلماء من رصده في بيئته الطبيعية مرة أخرى.
والآن، ولأول مرة على الإطلاق، نجح باحثون من معهد شميدت للمحيطات في الولايات المتحدة، في تصوير أول لقطات مؤكدة لحبار حي يافع يُدعى "ميزونيكوتيوتيس هاميلتوني" في بيئته الطبيعية في أعماق البحار.
تم تصوير هذا الحبار الصغير، الذي يبلغ طوله حوالي 30 سنتيمترا، على عمق 600 متر، بالقرب من جزر ساندويتش الجنوبية في جنوب المحيط الأطلسي، هذا الصغير يمكن أن يصل حجمه حينما يكبر إلى 7-10 أمتار، وبوزن يقارب نصف الطن.
تقول كاثرين بولستاد، خبيرة رأسيات الأرجل والأستاذة المشاركة في جامعة أوكلاند للتكنولوجيا في نيوزيلندا إن "هذه هي المرة الأولى التي يُصور فيها الحبار الضخم بطريقة غير جراحية، حيا وليس ميتا على سطح سفينة أو ممزقا في شبكة صيد"، وتضيف في حديثها للجزيرة نت "تعد هذه اللقطات غير مسبوقة نظرا لصعوبة تصوير هذه الكائنات الغامضة في موطنها الطبيعي".

اكتشاف بالصدفة
في مارس/آذار الماضي، سجَّل فريق من العلماء -الذين كانوا جزءا من مشروع تعداد المحيطات- اللقطات خلال مهمة دولية استمرت 35 يوما لاكتشاف الحياة البحرية في منطقة بعيدة للغاية، لدرجة أن أقرب البشر كانوا على بُعد مئات الأميال في محطة الفضاء الدولية.
إعلان
واستخدم فريق سفينة الأبحاث "فالكور" التابعة لمعهد شميدت للمحيطات، غواصة يتم التحكم بها عن بعد، لرصد هذا النوع من الرخويات في الذكرى المئوية لاكتشافه وتسميته لأول مرة.
وتقول بولستاد "في هذه الرحلة الاستكشافية تحديدا، كانوا يبحثون عن أنواع وموائل بحرية جديدة، وبالصدفة انجرف هذا الحبار الضخم الصغير أمام كاميرات الغواصة في مياه حالكة السواد، ينبعث منه ضوء من صنعه، وعندما أدركوا مدى جماله، توقفوا وصوروه لبضع دقائق".
ولم يكن الفريق متأكدا في البداية من ماهية الحبار، وتم التحقق من صحة اللقطات وتحديد هوية الكائن البحري الظاهر فيها مع مجموعة من الخبراء من داخل وخارج رحلة البحث، من بينهم بولستاد، التي تقول "هكذا حصلنا على ما نعرفه الآن بأول لقطات مؤكدة للحبار الضخم أثناء قيامه بما نسميه سلوكيات طبيعية، وهذه أول فرصة لنا لرؤيته حيا وهو يمارس دوره في موطنه بأعماق البحار".
100 عام من الرصد
انتبه العالم الحديث لوجود الحبار الضخم عندما عثر عالم الأحياء البحرية جيمس إريك هاميلتون على أجزاء من أحدها، بما في ذلك ذراعان، في معدة حوت العنبر بالقرب من جزر شيتلاند في أسكتلندا في عام 1925. أُعيدت الأجزاء إلى المتحف البريطاني في لندن، حيث تم تحديدها رسميا كنوع جديد في العام نفسه.
ومنذ ذلك الحين، لم يُصوَّر الحبار الضخم على قيد الحياة في الأعماق، لكن بولستاد تقول "لقد تمكنا من تأكيد وجودها في بيئتها الطبيعية. لدينا بعض اللقطات لحبار ضخم بالغ يصعد إلى السطح متتبعا أسماكا مسننة معلقة بخيوط طويلة، والتي يُعرف عنها أن هذا النوع من الحبار ينقض عليها بشكل انتهازي".
وعلى مدار عقود، استمر الحبار هذا الكائن الغريب في ترك آثار مثيرة للاهتمام، فقد سبق تصوير أكثر من حبار بالغ يحتضر من قِبَل صيادين، وعُثر على أجزاء مهضومة جزئيا داخل حيتان العنبر المقطوعة وحيوانات أخرى.
إعلان
وفي عام 1981، علق حبار ضخم يبلغ طوله حوالي 6 أمتار في إحدى شباك طاقم سفينة الصيد السوفياتية "يوريكا" عن غير قصد. هذه العينة، التي نفقت بسرعة، لم يكن يُعتقد أنها مكتملة النمو.
ثم عام 2003، عُثر على حبار ضخم ميت عائما قبالة الساحل الجنوبي لنيوزيلندا. هذه المرة، بلغ طوله 20 قدما.
كما ظهرت لقطات لحبار ضخم حيّ تم اصطياده لفترة وجيزة بخيط صيد عام 2005، من قارب في مياه جنوب المحيط الأطلسي.
وفي عام 2007، وقع أحد أنواع الحبار الحيّ في فخّ قارب صيد آخر، وأُصيب بجروح بالغة. وهذه المرة في بحر روس، بالقرب من القارة القطبية الجنوبية. وبدا هذا الحبار بطول 10 أمتار، وكأنه بالغ مكتمل النمو.
والتقطت منظمة "كولوسال" البحثية لقطات لحبار من نفس النوع بحجم مُماثل في أنتاركتيكا ضمن حملة الرصد التي أجرتها المنظمة في الفترة 2023-2024، لكن عدم وجود لقطات عالية الدقة جعل من المُستحيل التمييز بين أنواع الحبار التي ينتمي إليها لأن ملامحه لم تكن واضحة.
ويصعب مع وجود هذه العينات الميتة واللقطات المتفرقة على سطح البحر تقدير تعداد الحبار الضخم عالميا، وأشار متحف التاريخ الطبيعي في لندن عام 2022 إلى أن نقص الرصد يعني أنه "حتى يومنا هذا، لا تزال هذه اللافقاريات الضخمة تتأرجح بين الأسطورة والواقع".
ولفهم حياة هذه الحيوانات بشكلٍ صحيح، احتاج العلماء إلى رصد أحدها يسبح في الأعماق، لكن أي غواصة تأمل في رصدها كانت تواجه تحديا بسبب عيون هذه المخلوقات الضخمة وطبيعتها الحذرة.
تقول بولستاد: "مع الأسف، يتطلب الكثير من المعدات التي نحاول استخدامها لمراقبة الأشياء في أعماق البحار أضواء ساطعة حتى نتمكن من التصوير، كما أنها تُصدر الكثير من الضوضاء، وربما تُخيف هذه الحيوانات، لذلك، فإن جهودنا الحثيثة لرؤيتها غالبا ما تُخيفها، لأنها ستعرف بوجودنا قبل وقت طويل من معرفتنا بوجودها".

من أثقل اللافقاريات على الكوكب
على الرغم من عدم تأكيد رؤية الحبار الضخم في موطنه الأصلي (المياه العميقة المفتوحة حول القارة القطبية الجنوبية وفي المحيط الجنوبي) إلا أن بعض العينات القليلة السليمة إلى حد كبير أتاحت للعلماء تجميع افتراضات معقولة حوله.
إعلان
وبلغ وزن أثقل جثة كاملة لحيوان بالغ تم انتشالها، والمعروضة في متحف نيوزيلندا "تي بابا تونغاريوا" في ويلينغتون (المتحف الوطني لنيوزيلندا)، أكثر من 400 كيلوغرام، مما يجعل هذا النوع أثقل اللافقاريات المعروفة على هذا الكوكب. ويعتقد الخبراء أن هذا الحيوان الغامض ينمو حتى يصل طوله إلى حوالي 7-10 أمتار (23 قدما)، ويزن ما يصل إلى 500 كيلوغرام.
تقول بولستاد "قد يظن المرء أنه ضخم جدا، ومن المضحك أن نتخيل أن لدينا حبارا ضخما وصغيرا في نفس الوقت، لكن في الواقع هذا ما لدينا. بدلا من رؤية ذلك الحيوان الضخم الذي تخيلناه، نرى هذه الصورة الجميلة لحيوان صغير".
وقاد هذا بولستاد التي كانت واحدة من الخبراء الذين أُرسلت إليهم اللقطات لتدقيقها إلى نتيجة مفاجئة أخرى، وهي أن هذا الحبار يمكن اعتباره "مراهقا" فقد بعضا من "ملامحه الطفولية"، مثل عينيه المسننتين البارزتين من جانبي رأسه.
سمات مميزة
ينتمي الحبار الضخم إلى فصيلة "كرانشيداي"، ويُشار إليه غالبا باسم "الحبار الزجاجي"، والسبب واضح تماما، كما تقول بولستاد: "كما ترون، لا يُشبه إلى حد كبير أسطورة الكراكن. إذا نظرتم إلى اللقطات، يبدو وكأنه منحوتة زجاجية صغيرة جميلة تطفو في الماء".
ويعد هذا النوع الضخم بلا شك الأكثر غموضا من بين 60 نوعا معروفا من الحبار الزجاجي، لذلك لا يُعرف الكثير عن دورة حياته وسلوكياته، لكن رؤية هذا الحجم المتوسط بين صغاره وبالغيه يتيح للعلماء فرصة حل بعض الألغاز المفقودة في تاريخ حياة هذا الحيوان الغامض للغاية.
ويعيش الحبار الضخم الأصغر سنا في أعماق متوسطة، في منطقة الشفق المحيطية الخافتة التي تُعرف أيضا باسم المياه الوسطى، ومع تقدمه في السن ونموه السريع، يُعتقد أنه ينزل إلى أعماق البحار، وربما يعيش على عمق بضعة كيلومترات.
وكما هو الحال مع أنواع أخرى في فصيلته، غالبا ما يبدو الحبار الضخم شفافا، ما يساعده على تجنب الحيوانات المفترسة ومفترسات الكمائن، ويحقق ذلك بفضل حويصلات الصبغ التي تُسمى "الكروماتوفورات"، وهي خلايا متغيرة اللون موجودة على أنواع أخرى من الحبار الزجاجي.
إعلان
أما أي أجزاء معتمة متبقية من الجسم، مثل عينيه العملاقتين اللتين لا يُمكنهما التحول إلى شفافتين، فيُخفيها عن الحيوانات المفترسة التي تسبح تحته بواسطة أعضاء مُولّدة للضوء تُسمى "الفوتوفورات"، والتي يمكنها أن تحاكي بريق المحيط في الأعلى.
وهذا يعني وفقا لـ"بولستاد" أنه "من المؤكد أن معظم جسم الحبار يمكنه التبديل من الشفافية التامة -وهو ما نراه غالبا في هذه اللقطات- إلى التعتيم التام، وربما يتمتع بتحكم دقيق في قدرته على فعل ذلك في مناطق معينة من الجسم أيضا".
ومن السمات المميزة الأخرى لهذا النوع وجود زوج من الخطافات الكبيرة الثابتة في منتصف كل ذراع من أذرعه الثمانية، بينما يحتوي اثنان من المجسات الأطول على خطافات قابلة للدوران بالكامل في نهايتهما.
ورغم ما قد يوحي به اسمه، فإن الحبار الضخم ليس من الحيوانات المفترسة الرئيسة، حتى عندما يصل الحبار إلى حجمه الكامل. ومع ذلك، تشير الندوب التي تركها من مخالبه الماصة والمعقوفة على العديد من حيتان العنبر وأسماك القرش النائمة التي حاول صدّها إلى أنه يقاوم بشراسة.
كما يبدو أنه يفترس أسماكا كبيرة تعيش في المناطق شبه القطبية الجنوبية، بما في ذلك سمك القاروص التشيلي وأنواع أخرى من الحبار، باستخدام مجساتها الفريدة.
من أكثر ما يلفت الانتباه في هذه الحيوانات عيونها الكبيرة جدا، فكل منها بحجم كرة قدم تقريبا، ومن المحتمل أن عيون الحبار البالغ قد تطورت لرصد الحيوانات المفترسة الضخمة والقوية في أعماق البحار، مثل أسماك القرش النائمة وحيتان العنبر التي يغوص في أعماق المحيط للصيد من مسافة بعيدة.
0 تعليق