"ديك مسافر على جدار".. قصّ يشكّل فصولاً من "مانيفيستو الغياب" الفلسطيني! - الكويت الاخباري

0 تعليق ارسل طباعة

 

كتبت بديعة زيدان:

 

عبر خمس وعشرين قصّة شكلت مجموعة "ديك مسافر على جدار"، يصنع إبراهيم أبو هشهش من عوالم طفولته في منطقة الخليل لأسرة لاجئة، ما قبل وقبيل النكسة، وإبانها، وما بعدها، تكويناً سرديّاً قد يستعصي على التجنيس، وإن كانت تندرج حكاياته في إطار "القصّ"، باعتبار القاص معجمياً هو الذي يروي القصة على وجهها، أو يصنعها، وأصلها من اقتَصَّ الأثَرَ أي تتبَّعه، واقتَصَّ الخبرَ عليه أي رواه على وجهه، وكلها عوامل تتجمع في نصوص المجموعة، التي يمكن اعتبارها أيضاً سيرة ذاتية وغيرية وجمعية في آن، شكلت في مجموعها شهادة على العصر الفلسطيني، في زمن بعينه، وإن انزاح قليلاً، ما بين قبل وبعد، وفي جغرافيا بعينها أيضاً، مع بعض الانزياحات الضرورية، عبر مشاهد مرسومة بدقة، فيها من التكثيف والترميز ما يتآلف مع المباشرة أحياناً لتكوين لوحات نابضة بالحياة، مع أن الموت يحيط بها من كل جانب.
ويتطوّر مفهوم الموت لدى السارد، الذي هو ذاته إبراهيم أبو هشهش، كما يتضح على لسان خليل السكاكيني، تِبعاً للمرحلة العمرية، غير بعيد عن عمق فلسفي يتسلل، دون إقحام، فـ"لم يكن الموت مخيفاً بحد ذاته، بل الموتى الذي كانوا عادة من الطاعنين في السن، هم مصدر الخوف الذي لا شفاء منه (...) فالموتى يسيرون في الليل، ويخترقون الجدران، ولا يخافون مثلنا من الظلام، والكهوف الموحشة"، ليدرك بعدها أن "الموت ليس مجرد لعبة ينهض منها الأطفال ويواصلون اللعب، بل هو شيء موحش ومخيف"، وأن "القطط تعبس عندما تموت، أما البشر فيبتسمون".
بل خال أن "الموت يعدي كما الحصبة وجدري الماء"، بل "بدا الموت كأنه غلاف غير مرئي"، وله رائحة الصابون المعطّر، ولهذا لا يزال ينفر من الصابون، ويحذر "من أن يمس" وجهه شيء غير الماء، "فالصابون هو رائحة الموت.. ولا بدّ أنهم يغسلون به الموتى أيضاً، ومن حسن الحظ أن معاجين الحلاقة لها رائحة لاذعة لا تذكر به".
والموت متعدد هنا، ويطال البشر وغيره من الكائنات الحيّة وغير الحيّة، من الاستشهاد برصاص الاحتلال كما مع جدّه الذي "قتله اليهود في البلد"، أي قرية "عراق المنشية" المهجرة، دون أن يذكرها، وصديق الجد محمد سليمان، وقتله الإنكليز في ثورة العام 1936، وكما حصل في حكاية أخرى مع موفق بدر السلطي، قائد الطائرة المختلفة فوق سماء المدرسة، أو شهداء معركة السموع، إلى الموت انتحاراً لأسباب عدّة، بينها ما ظل غامضاً، وبينها الفشل في علاقة زوجية، أو غيرها، وبوسائل متعددة، كان أكثرها شيوعاً في منطقة الخليل، شرب مبيد "الفيليدول" الحشري والقفز في آبار المياه العتيقة، أو تلك التي "غدّرتْ"، أي المرأة التي تموت أثناء الوضع، ليس بعيداً عن "قتل" الفراشة وعصفور الدوري الذي لم يُجدِ معه التنفس الاصطناعي الطفولي نفعاً، أو القنص المتعمد للقط البرتقالي، من صيّاد محترف يلقى المصير نفسه، أو حتى الموت المجازي اختفاءً كحال الديك المرسوم على الجدار، أو "الدرّاج"، أو الأمكنة التي كانت فلسطينية، أو حتى الأزمنة التي لن تعود، وليس انتهاءً بفنجان أبي طلال الذي قاوم الاستعمار، وسقط يوم الهزيمة الكبرى.
وتحضر هزيمة حرب حزيران 1967 (النكسة)، بسطوة في المجموعة، كونها حدثاً محورياً، ليس قبله كما بعده، في المرحلة التي ينقل خلالها الطفل إبراهيم للقارئ مشاهداته عن الحياة، من تلك الجغرافيا التي كان يقطنها في جنوب الضفة الغربية، مجسّداً مقولة أدونيس الافتتاحية إن "قرية صغيرة هي طفولتك.. مع ذلك، لن تقطع تخومها مهما أوغلت في السفر".
في القصة التي تحمل المجموعة عنوانها، "ظل الديك مسافراً على جداره، وظل يبهت شيئاً فشيئاً.. ولمّا وقعت هزيمة 1967، كان قد صار باهتاً لا يكاد يُرى، ثم اختفى تماماً، كأن الصورة نفسها ماتت ودُفنت في الجدار. ولمّا نزح كثيرٌ من سكان تلك الحارة إلى الضفة الشرقية، أقنعتُ نفسي أن الرسام كان من بين هؤلاء الراحلين".
أما "كلب المعازي" فلم يكن "مثل سائر الكلاب، فقد خرج مع الناس من البلاد"، وكان "عاديّاً، أسود سواداً تاماً، ووقوراً وقاراً يكاد يكون بشريّاً، كأنه غارق في حداد أبدي"، وعاش عمراً طويلاً حتى "شهد احتلال بقية فلسطين عام 1967"، في حين تبرز في "رعيان النكسة"، شخصية "النُح الذي يُمنى بهزيمتين مريرتين"، ولطالما كان يكرر عبارة "إسوائيل هيك" وهو يشكل من إبهامه وسبّابته حلقة مقفلة، ليبّين أن الخناق ضاق عليها من كل الجهات، قبل أن تُجهز "الهزيمة الكبرى" على ما تبقى من كبريائه بعد هزيمته الصغري ليلة زفافه، في ربط ذكي لحالة العجز العربية، والانكسار تحت وطأة الإيهام، كما في غلافَي مجلتَي "روز اليوسف" و"صباح الخير" بما يحويان من صورة عملاقة لجمال عبد الناصر متسلحاً بصاروخَي "القاهر" و"الظافر"، وكاريكاتير يبشّر بنصر محقق على المُحتل.
ويسرد أبو هشهش في "رفّاص النكسة"، و"حمار النكسة الرمادي الصغير"، حكايات نادرة ارتبطت بما بُعيد هزيمة حزيران، في جغرافيته التي كان يسكنها ولا تزال تسكنه، وتغيب كثيراً عن الساردين في البلاد وخارجها، بلغة تُشعِر القارئ بثقل الوطن الضائع، كما الزمن والجغرافيا، و"كأن الهزيمة مرض جلدي يسبب الحكاك، لا يمكن أن تتركك لحظة"، فهي "مثل الليلة الأولى التي تقضيها بعد أن تكون في النهار".
ولم تغب الذاكرة، التي خرجت على شكل قصص، والموروثة في شيء منها، كما في حكايات النكبة، عن عائلته اللاجئة، أو المنتقاة من ذاكرته الشخصية التي يحملها منذ الطفولة قبل أن يدلقها بين دفتَي هذه المجموعة، مُعتمداً في مقاطع منها على المونولوج الداخلي، حتى باتت الشخصيات تحدثنا عمّا تشعر به، بل إن أفكارها باتت تتناسل في عقولنا، فتوحدت الأذهان، ولو لبعض الوقت، لدرجة أن القارئ بات راصداً للتحولات النفسية لها، والأجواء الجوانية التي تسكنها، أو البرانيّة المحيطة بها.
وكان لاستخدام المصطلحات الدارجة في بيئة سرد حكايات "ديك مسافر على جدار"، وبنيتها، دوراً مهماً في تشكيل نافذة على جغرافيتها وزمانها، ويوميّات من كانوا، كـ"المزودة"، و"يستك"، و"قلاعة القطاني"، و"الكبّانية"، و"الفيدوس"، و"عفارم عليك"، و"الكزمة"، و"أبو رابوص"، وغيرها.
وبصرف النظر عن التصنيف، فإن القصّ في مجموعة "ديك مسافر على جدار"، والصادرة حديثاً عن دار الشروق للنشر والتوزيع في عمّان ورام الله، ماتع لجهة طريقة السرد، ولغته، وتكويناته المتعددة، وموضوعاته، وشخوصه، وبيئته الشعورية، وهي العناصر التي شكلت معاً سيرة وطن في مرحلة ما، نبش عنها الطفل الذي كبر، فخرج بنصوص نُقلت بحساسية عالية، ودون زخرفة، حتى باتت أقرب إلى تجربة إنسانية مكتملة، يمكن عنوتها بـ"مانيفيستو الغياب" الفلسطيني، فـ"أكثر ما يثير الدهشة وقت المصائب والهزائم الكبرى، أن الطبيعة لا تغيّر عاداتها، فالطقس قد يظل مشرقاً والنسيم عليلاً، والشجر سيورق حين يأتي أوانه، ولن يجزع لغياب أحدٍ أو حزنه، حتى لو كان أب يدفن ابنه في تلك اللحظات (...) والخراف لم تبالِ قط أن دولة خرجت، وأن دولة أخرى صارت تُسمى احتلالاً تحلّ مكانها".

 

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق