عاجل

الهند وإسرائيل: تطبيع على أنقاض العروبة - الكويت الاخباري

0 تعليق ارسل طباعة

"لديكم وضع مشابه لما جرى عندنا. مجموعة من الناس ذاهبة إلى حفل موسيقي أو إلى عطلة ثم تُقتَل وتُذبَح. إنها النزعة الدموية نفسها، والتأويل الديني المُختَل نفسه. إنها ظاهرة يجب أن تُستأصل بالكلية، ولهذا امتلكت إسرائيل العزيمة والقوة لمهاجمة حماس بالطريقة التي رأيناها. ونحن عازمون على المُضي قُدما دفاعا عن مبادئنا وقوانيننا وقيمنا، وأنا على يقين بأن الهند ستفعل الشيء نفسه".

بتلك الكلمات تحدَّث السفير الإسرائيلي في الهند، رؤوفين عازر، في تعليقه على هجوم بَهَلكام، الذي وقع يومَ 22 أبريل/نيسان الماضي، حين نفَّذ خمسة مسلحون هجوما على سُياح في الجزء الهندي من ولاية جامُّو وكشمير، ما أسفر عن مقتل 26 سائحا.

لم يكن غريبا أن يُبادل السفير الإسرائيلي الحكومة الهندية بتلك الدرجة من التضامن، ولم تكن تلك المرة الأولى التي يُعرب فيها صناع القرار في البلديْن عن مشاعرهما المشتركة في مواجهة "الإرهاب الإسلامي".

فقد كان موقف مودي صريحا صبيحة السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، حين أعلن عن تضامنه الكامل مع إسرائيل، واصفا هجوم حماس بالإرهابي، في موقف لم يعكس اتجاه الحكومة الهندية فحسب، بل عبَّر عن المزاج العام لأنصار الحركة القومية الهندوسية، التي تعتبر تحالفها مع إسرائيل واحدة من أهم السِّمات المُميزة للسياسة الخارجية الهندية تحت حُكم مودي، مقابل حزب المؤتمر الذي تأرجحت مواقفه من دعم القضية الفلسطينية صراحة في الخمسينيات والستينيات، إلى محاولة تبني موقف أكثر حيادا ودبلوماسيا حتى نهاية التسعينيات.

إعلان

لقد أصبح التحالف الهندي-الإسرائيلي من السِّمات المعهودة الآن لشبكة علاقات إسرائيل الإقليمية والدولية، بيد أن الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة بذلت جهودا مضنية في الحقيقة كي تظفر بانحياز الهند لها، ونجحت بعد عناء في دفع الباب الموصد كي يصبح موارِبا بعد اغتيال رئيسة الوزراء الهندية إنديرا غاندي.

وكي يصبح مفتوحا على مصراعيه بعد صعود الحركة القومية الهندوسية إلى السلطة عام 2014، التي عزَّزت علاقتها بتل أبيب على كل المستويات، بدءا من الاتفاقات العسكرية والأمنية، وحتى تدشين الرحلات الجوية المباشرة وتبادل السياح بشكل موسَّع، وقد تركت العلاقات الوطيدة بصمتها في مناحٍ شتى، ووصلت إلى قرى الهيمالايا النائية، التي باتت تُعلِّق لافتات عبرية مُخصَّصة للسياح القادمين من إسرائيل.

العِبرية: من الهيمالايا إلى غوا

"كُل ما عليك هو اتباع اللافتات العبرية لتصل في النهاية إلى غليون مملوء بالحشيش."

مالك أحد الشواطئ في "غوا"

على ضفاف نهر "بارْوَتِي" المتاخم لجبال الهيمالايا بأقصى شمال الهند، تقع قرية "كَسُل" الصغيرة والنائية، التي تعج بالعديد من الحانات والفنادق الرخيصة ومقاهي الإنترنت والمطاعم الأجنبية، بالإضافة إلى التداول الواسع لـ"تشارَس"، واحد من أجود أنواع الحشيش الهندي.

تقدِّم "كَسُل" للكثير من السائحين وعشاق تسلق الجبال أو الطبيعة الهندية مزيجا من الاسترخاء والتأمُّل واستنشاق الهواء النقي، الممزوج أحيانا ببعض الحشيش. يلحظ زوَّار القرية باستمرار توافر معظم اللافتات باللغتين الهندية والعِبرية، إذ تعجُّ المدينة بنسبة كبيرة من الزوَّار الإسرائيليين نتيجة قدوم العديد من الشباب المُنتهي لتوِّه من الخدمة العسكرية الإجبارية في إسرائيل، وهي ظاهرة حاضرة أيضا في ولاية "غُوا" الساحلية غربي الهند، إذ يسافر هؤلاء إليها في الشتاء بعيدا عن ثلوج الهيمالايا.

إعلان

يتوافد شباب إسرائيليون على الهند سنويا تحت رعاية منظمات حكومية وغير حكومية في إسرائيل، لمعالجة آثار الضغط النفسي الواقع عليهم في صفوف الجيش، فتتحوَّل حياتهم إلى النقيض تماما: حفلات مستمرة، وتعاطٍ للمخدرات، وتعامل مفتوح مع البغاء، وهي تصرُّفات جلبت استهجانا محليا شمل الكنيسة الكاثوليكية في "غوا"، التي نشرت كُتيِّبا تحذر فيه من تجاهلهم لعادات السكان المحليين، و"لا إنسانيتهم" بسبب ما خاضوه أثناء خدمتهم بالجيش.

تشهد "غُوا" حضورا قويا لرجال الأعمال الإسرائيليين، وشراءهم مساحات واسعة من الأراضي دفعت نائبا برلمانيا للتحذير من "احتلال الإسرائيليين في غوا"، وانخراطهم في تجارة المخدرات بالمدينة، وتوفير الغطاء لتجارتهم عبر أملاكهم هناك.

من المجنَّدين والمستشارين الزراعيين، وحتى رجال الصفقات الضبابية وتجارة المخدرات، بات التوافد الإسرائيلي ملحوظا رغم بساطته في دولة كبيرة مثل الهند؛ ليعكس الشوط الكبير الذي قطعته إسرائيل نحو فتح باب العلاقات الطبيعية مع دلهي، التي لم تُطبِّع علاقاتها مع إسرائيل بالكامل إلا عام 1992.

"المهمة الدبلوماسية الأكثر انعزالا في العالم"، هكذا عُرِفَت قبل خمسين عاما قنصلية إسرائيل في مومباي بموظفيها الأربعة، حين كان محظورا على تل أبيب تدشين سفارة في العاصمة دلهي، واقتصرت العلاقات -من جهة إسرائيل وحدها- على المستوى القُنصلي، بينما امتنعت الهند عن إيفاد أي دبلوماسي إلى إسرائيل. حرصت تل أبيب على علاقاتها مع الهند آنذاك رغم جفاء القيادة السياسية الهندية، بل ودأب أولئك الموظفون الأربعة على نشر مجلة خاصة بالقنصلية كل شهرين، والرد على استفسارات بعض الهنود ارتكزت بالأساس على تجربة إسرائيل الرائدة في الزراعة.

بدأت العلاقات الفعلية بين الدولتيْن قبل حوالي 40 عاما، لكن التطبيع اتسم بالبطء من جهة الهند، إذ انصبَّ الاهتمام الهندي على الاستفادة من شركات التنمية الزراعية الإسرائيلية، والتعاون في المجالات العسكرية المتميزة لدى الإسرائيليين.

إعلان

عدا ذلك بقي حماس الهند محدودا حيال التطبيع الشامل، فقد امتنعت شركات الطيران الهندية عن الرحلات المباشرة إلى تل أبيب حتى عام 2017، تاركة الطيران الإسرائيلي "إل عال" يُقدِّم تلك الخدمة منفردا لعدد محدود من السائحين الهنود لا يتجاوز 50 ألفا سنويا، وهي أعداد لا يزال يحاول بعضها أن يتفادى الختم الإسرائيلي على صفحات جواز سفره والحصول عليه في ورقة منفصلة؛ خوفا من رفض دخوله فيما بعد إلى السعودية أو الكويت أو إيران أصحاب العلاقات المتشعبة بالهند.

مثلها مثل مواطنيها، حاولت دلهي تفادي "ختم" العلاقات العلنية وحفاوة الزيارات الرسمية إلى تل أبيب التي لم يقُم بها رئيس وزراء هندي أبدا حتى عام 2017. وصل مودي إلى السلطة قبل ما يزيد على العقد، بسياساته الناقمة على كل ما رسَّخه حزب المؤتمر من ثوابت، ولم ينتظر الرجل طويلا، إذ أصبح أول رئيس وزراء تطأ قدماه تل أبيب حين زارها منذ ثمانية أعوام، وقد بادله الزيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في العام التالي.

على مدار فترته الأولى في الحكومة، ظل التاريخ يُلقي بظلاله، وظلت التزامات القضية الفلسطينية الضاربة بجذورها في المؤسسة الدبلوماسية الهندية تفرض بعض الالتزامات، حتى ثبتت أقدام مودي في السلطة، وتحوَّلت العلاقات الطبيعية إلى تحالف مفتوح، وتوارى إلى الأبد إرث نهرو ومعاصريه.

الشرطة الهندية تعتقل متظاهرين داعمين لفلسطين أمام السفارة الإسرائيلية في نيودلهي (مواقع التواصل)

الباب الموصد بوجه إسرائيل: إرث نهرو وحركة الخلافة

"تعارض باكستان باستمرار مشاركتنا في الفعاليات الإسلامية، وهو أمر طبيعي لأن تأسيسها كدولة يقوم على نظرية الفصام بين شعب هندوسي (في الهند) وشعب مسلم (في باكستان)؛ نظرية لم ولن تقبلها الهند." — كوربتشان سينغ، سفير الهند السابق بالمغرب

في مارس/آذار 1966، حطَّت طائرة الرئيس الإسرائيلي زلمان شَزار في العاصمة الهندية دلهي لسويعات، قبل أن تنقله إلى مدينة كالوكتَّا شرقي الهند حيث أمضى ليلته على أن يصل صباحا إلى وجهته الرسمية: العاصمة النيبالية كاتماندو. لم يكن ثمة مسؤول هندي واحد لاستقبال الضيف الثقيل الذي حلَّ ضيفا على الهند رغما عنه في رحلته الطويلة، على عكس العادة الدبلوماسية في مواقف مثل هذه؛ ما منح المعارضة فرصة مناسِبة لمهاجمة رئيسة الوزراء آنذاك إنديرا غاندي بعد شهرين فحسب من توليها المنصب بسبب ما أبدته حكومتها من "سوء الضيافة".

إعلان

على خُطى والدها جواهرلال نهرو، الذي جمعته علاقة وطيدة مع الرئيس المصري جمال عبد الناصر والتزم "سياسة عروبية" تجاه القضية الفلسطينية، التزمت إنديرا بخط السياسة الرافضة للتطبيع مع إسرائيل، بل وازدادت تعنُّتا في مقاطعة الإسرائيليين؛ رغبة منها في توطيد صفوف جناحها بالحزب الحاكم المتحالف مع الأحزاب اليسارية التي ترفض التطبيع هي الأخرى، وإيمانا بتبعية المشروع الصهيوني للغرب، علاوة على اهتمامها بتعزيز شعبيتها في أوساط المسلمين بما يمثلونه من خُمس السكان في الهند تقريبا، وكسب ورقة تعاطفهم مع الفلسطينيين في الانتخابات.

لم تكن سياسة حزب المؤتمر تجاه إسرائيل مجرد حسبة انتخابية في واقع الأمر، بل تجلٍّ لإرث طويل من الاهتمام بالعالم الإسلامي نظرا لتعداد الهند المُسلِم الكبير. فقد كان حراك الحزب بقيادة المهاتما غاندي ضد البريطانيين كتفا بكتف مع حركة دعم الخلافة العثمانية التي نشأت في صفوف مسلمي الهند في مطلع القرن العشرين وأنتجت قيادات مُسلمة عديدة، منها مَن بقي في الهند ومنها مَن شارك في تأسيس دولة باكستان عام 1947.

ثم حازت الهند استقلالها إبَّان انقسام القارة إلى دولتَيْ الهند وباكستان، واستندت جزئيا إلى رفض الخطاب الباكستاني القائل بـ"هندوسية" الهند، وعدم الرضوخ لمحاولتها عزل الهند عن محيطها الإسلامي في الشرق (إندونيسيا وماليزيا) والغرب (إيران والعرب)، بل وضرورة بلورة علاقات وطيدة مع ذلك المحيط عموما، ومع العرب وقضاياهم خصوصا، بوصفها تمثيلا طبيعيا للدور التاريخي لمسلمي الهند.

جرت الرياح بما تشتهِ السُفن في دلهي، إذ شكَّلت حرب الأيام الستة عام 1967 سببًا إضافيًا لتمسُّك إنديرا بمقاطعة إسرائيل بوجه معارضيها نظرًا لمخالفة تل أبيب قرارات الأمم المتحدة باحتلال أراضٍ عربية جديدة، وبالمثل سرت الرياح داخل الهند حين هزم الجيش الهندي نظيره الباكستاني في معركة تحرير بنغلادش عام 1971، فاكتسح جناح إنديرا الانتخابات البرلمانية في العام نفسه، مؤكِّدًا على سيطرة واستمرار إرث نهرو في الحزب الحاكم. بيد أن الحماس الهندي للقضية الفلسطينية كان قد بدأ بالفتور على خلفية أحداث عدة، بدأها في الواقع الجانب العربي عام 1969.

إعلان

في سبتمبر/أيلول عام 1969، تلقَّى جوربَتْشان سينغ، سفير الهند بالمغرب، دعوة رسمية لحضور بلاده المؤتمر الإسلامي في العاصمة المغربية الرباط، على خلفية قيام يهودي متطرف من أستراليا بإشعال حريق في المسجد الأقصى، وهو مؤتمر تمخضت عنه منظمة المؤتمر الإسلامي.

جلس سينغ رئيسا للوفد الهندي أثناء الجلسة الافتتاحية حتى وصل في اليوم التالي وفد رسمي من دلهي بقيادة "فخر الدين أحمد"، وزير مُسلم من حكومة إنديرا، لكن أحد المُوفَدين من جانب ملك المغرب حمل أخبارا سيئة للوفد الواصل لتوِّه؛ لقد تراجع المؤتمر عن دعوة الهند.

أتت المُعارضة كما هو متوقع من باكستان، وقيل إن ضغوط عدد من المؤسسات الباكستانية على رئيسها "يحيى خان" غيَّرت موقفه بعد أن وافق في البداية على حضور الهند، وسيقت الحُجج رسميا للوفد الهندي بالإشارة إلى أحداث توتر طائفي جرت في إحدى الولايات الهندية أدت إلى مقتل عدد من المسلمين بوصفها عائقا يحول دون استكمال الهند حضور المؤتمر. ومن ثمَّ طُلب من فخر الدين إما التنازل عن الحضور وإما تغيير صفة الهند من عضو كامل إلى عضو مراقب، الأمر الذي رفضه الوزير الهندي.

حظي الموقف الباكستاني بدعم الأردن وتركيا وإيران (وكانت الأخيرة تحت حُكم الشاه آنذاك)، وقيل إن اثنين منهم هددا بالانسحاب مع باكستان إذا حضرت الهند، ما دفع المغرب ببساطة لتفادي إعلام الهند بجدول أعمال المؤتمر لإجبارها فعليا على عدم الحضور والخروج من المأزق وإنجاح المؤتمر. عُقدت الجلسة الختامية عصر يوم 25 سبتمبر/أيلول، وحين علم الوفد الهندي وأرسل خطابا إلى رئاسة المؤتمر يستفسر عن عدم دعوته، لم يتلقَّ ردا؛ فخرج البيان الختامي مشيرا إلى حضور ممثلين عن "المسلمين بالهند" فحسب، دون ذكر حضور وفد ممثل للدولة الهندية في بداية المؤتمر.

أبلغت الهند الدول المشاركة في المؤتمر احتجاجها الرسمي على ما جرى من خرق واضح للأعراف الدبلوماسية، وقد سارع بعضها بإرسال الوفود إلى دلهي لتفسير موقفه ودعمه الأصلي للمشاركة الهندية، وعلى رأسها مصر. بيد أن التخبُّط العربي حيال الهند وباكستان ما انفك يكشف عن نفسه في مواقف عديدة، لا سيَّما الحروب المتكررة بين البلدين في كشمير، التي انحاز فيها البعض لباكستان، في حين حاول آخرون التزام الحياد، مثل مصر.

إعلان

استمر الالتزام الهندي بالقضية الفلسطينية طوال وجود إنديرا في السلطة، إذ مُنحَت منظمة التحرير الفلسطينية مقرا رسميا في دلهي عام 1974، في الوقت الذي ظلت فيه إسرائيل على قنصليتها المتواضعة خارج العاصمة، بل وتعرضت لتضييقات إضافية مثل رفض منح أي تأشيرات هندية لمواطنين إسرائيليين، وكان بعضها يُمنح عن طريق السفارة البريطانية في تل أبيب، التي أدارت عبرها الهند تلك الملفات الأساسية في علاقاتها مع إسرائيل.

لكن تلك الأوضاع لم تستمر طويلا، مثلها مثل أوضاع كثيرة انقلبت رأسا على عقب في الشرق الأوسط خلال السبعينيات.

الباب الموارب: الثمانينيات وما بعد حرب كارغيل

 

"هل يُعقَل أن نكون أكثر عروبةً من مصر نفسها؟"

تشيدامبارَم سوبْرامَنيام، وزير مالية ودفاع هندي سابق

لو كان لإسرائيل أن تحتفل بعام آخر غير عام 1948، لربما فكرت أن تحتفل بعام 1977، إذ فتح لها ذلك العام أبوابا عدة وليس بابا واحدا فقط. أولها وأثمنها الباب المصري، الذي انفتح على مصراعيه بزيارة الرئيس أنور السادات للكنيست الإسرائيلي، وما تبعه من طي صفحة الحروب مع مصر، وثانيها حدوث انفراجة لأول مرة في التواصل المباشر مع الهند، بعد خروج إنديرا من السلطة جراء سقوط شعبيتها في انتخابات 1977 على خلفية سلطويتها المتزايدة وإعلانها حالة الطوارئ.

لم تفكّر حكومة "جَنَتا" الجديدة طويلا، لا سيَّما مع وجود عناصر قومية هندوسية في صفوفها ترى وجاهة الاصطفاف مع إسرائيل في مواجهة باكستان، ومن ثم تقرر استقبال وزير الدفاع الإسرائيلي حينها موشيه دَيان سِرًّا في دلهي لبحث سُبُل الاستفادة من خبرات إسرائيل العسكرية.

ورغم سقوط حكومة "جَنَتا" في غضون عامين، وعودة إنديرا للسلطة، فإن سياساتها الخارجية باتت أضعف آنذاك مع بدء تراجع حليفها السوفيتي واختفاء النظام الناصري من الساحة. لقد كانت مسألة وقت لا أكثر قبل أن يصبح الباب الموصد مواربا، وهو ما حدث بالفعل بعد اغتيال إنديرا غاندي عام 1984 على يد متطرفين سيخ.

إعلان

عامٌ واحد فقط مرَّ على اغتيالها قبل أن يقرر راجيڤ غاندي، ابنها وخلفها في السلطة، التقاء نظيره الإسرائيلي لأول مرة على هامش الاجتماع السنوي للجمعية العامة للأمم المتحدة.

أدركت المؤسسات الحاكمة في الهند أثناء سنوات راجيف الصعبة في الثمانينيات الحاجة إلى تغييرات جذرية لمواكبة ما يجري من حولها، بدءا من تدهور الاتحاد السوفياتي عالميا، وانتقال الثقل الاقتصادي في المنطقة العربية إلى الخليج بعلاقاته القوية مع باكستان، والحاجة إلى فتح السوق الهندي ومن ثم التقارب مع الولايات المتحدة، لا سيَّما مع بدء صعود الاقتصاد الصيني.

كان ملف التطوير العسكري على رأس الأجندة الهندية، فقد ظلت الصناعات العسكرية الأميركية بعيدة عن السوق الهندي، في حين أدى تراجع روسيا عالميا مع الحاجة إلى صيانة وتطوير الترسانة السوفيتية لدى الجيش الهندي إلى الرغبة في بلورة علاقة جديدة مع طرف يمكنه سد تلك الثغرة، وهو واحد من الدوافع الرئيسية لقرار تدشين العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل تحت رئاسة وزراء نَرَسيمْها راو عام 1992، إذ استطاعت إسرائيل أن تمتلك الخبرة في صيانة السلاح السوفيتي، رغم أنه لم يكن السلاح الذي اعتمدت عليه بالأساس.

أدت عوامل إضافية في نهاية التسعينيات إلى تعميق الشراكة العسكرية مع إسرائيل؛ أولها الحظر الذي فرضته الولايات المتحدة مؤقتا على التعاون العسكري مع الهند بسبب تجاربها النووية العسكرية، التي خرقت اتفاقية حظر انتشار السلاح النووي. وثانيها وصول حزب بهارَتيا جَنَتا القومي الهندوسي للسلطة لأول مرة، وابتعاده أكثر عن الناخبين المسلمين وأحزاب اليسار. وثالثا وقوع حرب جديدة مع باكستان عام 1999 هي حرب كارغيل، التي تكشَّفت فيها مكامن خلل عسكرية واستخباراتية في تعامل القوات الهندية مع نظيرتها الباكستانية التي تمتَّعت بالدعم الأميركي وبانحياز الصين نظرا للتنافس التاريخي بين الصين والهند.

إعلان

في تلك الفترة لم تجد دلهي سوى أيادي إسرائيل الممدودة، التي طالما تطلعت نحو علاقة قوية مع الهند فيما يشبه حبا من طرف واحد، حتى قررت الهند أخيرا الاستجابة جزئيا للتودد الإسرائيلي بغية الحصول على مزايا الترسانة الإسرائيلية، التي سرعان ما باتت دلهي أكبر مستهلك لها في العالم، علاوة على الوصول بصورة غير مباشرة لأحدث تقنيات الغرب العسكرية من بوابة تل أبيب.

استمر نهج الباب الموارِب، المنصب على الاستفادة العسكرية والتقنية، حين عاد حزب الكونغرس للسلطة وظل فيها حتى عام 2014، في تجلٍّ واضح لاستحالة العودة لسياسات نهرو "العروبية"، لا سيَّما أن أصحاب تلك السياسات من العرب أنفسهم تخلوا عنها من أجل سياسات أكثر واقعية، ولذا لم يكن منطقيا أن تحمل دلهي لواء معركة على بُعد آلاف الكيلومترات مع دولة تمنحها الآن مزايا هي في أمسِّ الحاجة إليها لمواجهة عدوِّها المباشر.

عصر مودي: الباب ينفتح على مصراعيه

"يبدو هنالك تضليل لشعبنا بخصوص فلسطين نتيجة دعايا المسلمين. فلسطين بأكملها وطن للشعب اليهودي، وذلك قبل ألفيّْ عام على الأقل من ميلاد رسول المسلمين."

ﭬينايَك دامودَر ساوَرْكَر، أحد أعلام القومية الهندوسية

في عام 2008، قام حاكم ولاية كوجرات آنذاك نارندرا مودي بتخصيص جزء من ميزانية الولاية لإطلاق موقع إلكتروني باسم المفكر الهندوسي ﭬينايَك دامودَر ساوَركَر، مُدافِعا عنه ضد "الدعاية الخبيثة التي نالت منه وأدت لسوء الفهم حياله لعقود طويلة" على حد وصفه. كان ساوَركَر جزءا من تيار القومية الهندوسية الذي صارع إرث المهاتما غاندي، ورأى في الهند وطنا هندوسيا يستند إلى الارتباط الوثيق بين أرض الهند المقدسة والعقيدة الهندوسية، ومن ثم اعتُبر أي عنصر ديني آخر لا يقدِّس أرضها دخيلا عليها.

طوال فترة رئاسته لولاية كوجرات، كان مودي محركا رئيسيا في حملة الحركة القومية الهندوسية من أجل مراجعة السرديات الرسمية لتاريخ الهند، وإعادة الاعتبار لأعلام الهندوس القوميين والمحافظين، علاوة على تنفيذ تصوراته عن السياسة الخارجية من موقعه في السياسة المحلية، وبالتحديد فيما يتعلق بإسرائيل والتقارب معها، في اتساق مع موقف القومية الهندوسية التاريخي بتأييد قيام دولة يهودية في فلسطين بوصفها أرضا مقدسة لليهود وطأها المسلمون متأخرا، تماما كما حدث مع أرض الهند "الهندوسية" وفقا لسردية الحركة.

إعلان

أثناء حكمه للولاية بين عامي 2001-2014، دأب مودي على تعزيز علاقاته مع إسرائيل، فأرسلت كوجرات العشرات من رجال الأعمال والمزارعين إلى هناك للحصول على أحدث تقنيات الزراعة الإسرائيلية، كما استقبلت الولاية استثمارات إسرائيلية عديدة.

ولم تكن مفاجئة إذن الحفاوة الإسرائيلية التي قوبل بها مودي بعد انتصاره عام 2014 في الانتخابات البرلمانية وتوليه رئاسة الوزراء، وكذلك الحماس تجاه وزيرة خارجيته سوشما سواراج، رئيسة المجموعة البرلمانية للصداقة الهندية-الإسرائيلية سابقا، فتوالَت شواهد عدة على انفتاح غير مسبوق تجاه تل أبيب، بدأ بلقاء مودي ونتنياهو على هامش الجمعية العامة للأمم المتحدة، رغم ما أُشيع عن تردد كثيرين في الخارجية الهندية تجاه اللقاء.

في أواخر عام 2014 قام وزير الداخلية راجنات سينغ بزيارة إسرائيل والعودة لبلاده، في سابقة من نوعها تعاكس العُرف الدبلوماسي الهندي بعدم زيارة إسرائيل دون المرور بالسلطة الفلسطينية في رام الله. تلا ذلك في أكتوبر/تشرين الأول 2015 زيارة رئيس الجمهورية الهندية ذي المنصب الشرفي بْرَناب موخِرْجي، فأصبح أول رئيس هندي يزور إسرائيل، لكن مع مروره على رام الله هذه المرة.

بيد أن تلك التحوُّلات لم تجلِب انفتاحا كاملا في حينه، إذ سادت الحسابات الواقعية في الفترة الأولى لحُكم مودي، وعلى رأسها العلاقة الإستراتيجية الوطيدة بين الهند وإيران، حيث تجمع البلدين مصلحة مشتركة باحتواء باكستان، علاوة على اهتمام الهند بعلاقاتها مع بنغلاديش وماليزيا وإندونيسيا والخليج، ومن ثمَّ لم يكن منطقيا التضحية بكُل ذلك وفتح باب التطبيع على مصراعيه في يوم وليلة، لا سيَّما مع اهتمام دلهي بالحصول على مقعد دائم بمجلس الأمن، الأمر الذي سيحتاج إلى عدد كبير من الدول المؤيدة.

رغم حماستها من أجل تعميق العلاقات الرسمية مع إسرائيل، والاستفادة منها عسكريا وتكنولوجيا، أبدت حكومة مودي درجة من الالتزام ببعض المواقف "العربية" التقليدية، منها الاستمرار في الإشارة إلى محمود عباس بوصفه رئيس فلسطين لا السلطة الفلسطينية فحسب مثلما تفعل دول أخرى، وزيارة وزيرة الخارجية الهندية لضريح ياسر عرفات أثناء زيارتها إلى فلسطين، وتصويت الهند لصالح رفع العلم الفلسطيني في الأمم المتحدة.

إعلان

في الوقت نفسه، أخذت الهند خطوات بطيئة من أجل تعزيز التعاون الثقافي والاقتصادي مع دولة الاحتلال، أبرزها رحلات الطيران المُباشرة على طيران الهند التي بدأت من مايو/أيار 2017 طبقا لاتفاق وقَّعه الطرفان دشَّن ثلاث رحلات أسبوعية من الهند إلى إسرائيل.

في أثناء الفترة الثانية لمودي في السلطة بين عامي 2019-2024، ازدادت وتيرة التطبيع مع إسرائيل، وعزَّز ذلك الاتجاه التقارب الوثيق بين دلهي وواشنطن على خلفية تنامي قوة الصين، ولذا باتت الهند تنظر إلى إسرائيل أكثر على أنها جزء من تحالفها مع الولايات المتحدة أكثر من كونها مسألة مرتبطة بعلاقاتها مع الشرق الأوسط والعالم الإسلامي.

يُضاف إلى ذلك تراجع مخاوف الهند من ردود الفعل العربية والإيرانية، أولا لأن بعض دول المنطقة بدأت تسلك مسار التطبيع، وثانيا لأن العلاقات الهندية-الإيرانية باتت أقل محورية في نظر الهند رغم أهميتها، إذ إن أزمتها الاقتصادية وأزمة الشرعية التي يعاني منها نظامها يجعلان منها أقرب إلى الصين وروسيا، كما أن سقوط الاتفاق النووي بين طهران وواشنطن الذي أذكى العداء بين العاصمتيْن دفع دلهي لترجيح كفة الأخيرة بطبيعة الحال، ومن ثمَّ تضاءل وزن إيران في الحسابات الهندية وإن لم يتلاشى بالكُليَّة.

بعد عامه العاشر في السلطة، والتحوُّلات الكثيرة في العلاقات الإقليمية المحيطة بالهند، يبدو أن دلهي بزعامة مودي قد رفعت الستار أخيرا عن الوُد المكتوم مع تل أبيب، بل وباتت انحيازاتها لها مُفاجِئة للأميركيين أنفسهم، إذ أبدى أحد المُحلِّلين بمجلس العلاقات الخارجية الأميركية دهشته من تغريدة مودي الأخيرة حول عملية "طوفان الأقصى" التي جاء فيها: "إنني مصدوم من أخبار الهجمات الإرهابية في إسرائيل. نحن متضامنون مع إسرائيل في هذه الساعة الصعبة"، وذلك في ظل بيانات روسية وصينية وبرازيلية تحدَّثت بشكل أكثر توازُنا عن ضرورة حل القضية الفلسطينية والالتزام بحل الدولتيْن، بل وتجنَّب بعضها إدانة حماس في إشارة ضمنية إلى أن جذور الأزمة تعود إلى التطرُّف الإسرائيلي.

إعلان

أتى الموقف الهندي في أكتوبر/تشرين الأول 2023 المُطابِق تقريبا للموقف الأميركي تجليا لما أحدثته الحكومة القومية الهندوسية من تغيُّرات في ثوابت السياسة الخارجية الهندية، وتجليا أيضا لتراجع النظام الإقليمي العربي نفسه وخروجه من قلب إستراتيجية الهند تجاه المنطقة والعالم، ومن ثمَّ لم يكُن غريبا أن تكون إسرائيل أول المسارعين لإعلان دعمها للهند بعد هجوم كشمير الأخير، وأكثرهم ترويجا لضرورة أن تسير الهند على نهج الاحتلال في غزة.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق