الرباط- يعد قطاع المعادن النفيسة في المغرب إحدى الركائز الأساسية للتحول الاقتصادي والإستراتيجي للمملكة، نظرا لموقعها الجيولوجي الفريد وتنوع مواردها الطبيعية.
ويمتد المغرب بين سلاسل الأطلس الكبير والصغير والمتوسط، وهي غنية بالمعادن النفيسة والإستراتيجية، مما يجعله لاعبا محتملا في الأسواق العالمية للمعادن.
وبالرغم من هذه الإمكانيات، يواجه هذا القطاع تحديات عدة مرتبطة بضعف الاستكشاف والتثمين، الأمر الذي يحد من استغلال الموارد بأقصى طاقتها.
وتأتي جهود الدولة، مثل البرنامج الوطني للخرائط الجيولوجية وخطة المغرب للمعادن 2021-2030، لتضع الأسس لتطوير قطاع معدني تنافسي، مع التركيز على التكامل الاقتصادي والاستدامة البيئية.
ويبرز المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي أهمية استدامة القطاع، وتطوير المعادن الإستراتيجية والحرجة لتحقيق السيادة الصناعية والاقتصادية.
إمكانيات طبيعية
يقع المغرب عند نقطة التقاء البنية الجيولوجية الأوروبية والأفريقية، مما يمنحه تنوعا فريدا في التكوينات الصخرية، ويجعل أراضيه غنية بالمعادن والموارد الطبيعية المتنوعة.
ويُبرز الخبير الجيولوجي مصطفى سوحسو -في تصريح للجزيرة نت- أن المغرب يمتلك إمكانات معدنية هامة -خاصة في النحاس والفضة- تؤهله ليصبح منتجا رئيسيا على الصعيد الأفريقي.

ويؤكد أن هذه الثروة الجيولوجية معترف بها في المجتمع العلمي، لكن ضعف الاستكشاف والتثمين يشكلان عائقا أمام استغالها، خصوصا مع محدودية قدرة حاملي الأسهم الصغار على الاستثمار، والذين يعود إليهم أغلب المناطق الغنية بالمعادن، في حين أن الاستثمار في القطاع يحتاج الى إمكانيات كبيرة.
ويضيف أن جهود الدولة، رغم وجود الخرائط الجيولوجية والجيوفيزيائية، تبقى محدودة، والحاجة ملحة إلى استثمارات أكبر وفتح الأرشيفات الجهوية التي قد تخفي مواقع منجمية مهمة.
إعلان
لكنه يشير إلى أن المغرب بدأ يوظف تقنيات الجيوفيزياء المحمولة جوا والمسح الجوي لاستكشاف مناطق جديدة، مما يفتح آفاقا جديدة في القطاع.
ومن جهتها تلاحظ نعيمة الفتحاوي (عضو لجنة البنيات الأساسية والطاقة والمعادن والبيئة بمجلس النواب) أن معظم المعادن تُصدر بصفة مواد خام من دون تصنيع، مما يضيع على المغرب فرصا اقتصادية مهمة.
وتوكد للجزيرة نت ضرورة الجمع بين الحكامة الجيدة والتكامل الاقتصادي واحترام البيئة ومبدأ الاستدامة واحترام حقوق الساكنة المجاورة، لجعل قطاع المعادن الوطني قاطرة للتنمية المسؤولة والمستدامة.
مشاريع جديدة
يشهد المغرب خلال السنوات الأخيرة انطلاق مشاريع منجمية جديدة، أبرزها مشروع في تارودانت بطاقة 150 مليون طن من خام النحاس، مع معالجة يومية تصل إلى 11 ألف طن، مما يجعله مرشحا ليصبح الأكبر في أفريقيا، ويتوقع أن ينتج عشرات آلاف الأطنان من النحاس سنويا.
وتشمل المشاريع الكبرى مناطق الذهب والنحاس في الأطلس الصغير الغربي، حيث تشير الدراسات الأولية إلى إمكانية إنتاج أكثر من 10 أطنان من الذهب سنويا.
بالإضافة إلى ذلك، تعزز مشروعات شركة آيا غولد آند سيلفر الكندية موقع المغرب بين أكبر 10 منتجين عالميين للفضة، مع إنتاج سنوي متوقع يقارب 155 طن فضة.
ويشير خبير التخطيط الإستراتيجي أمين سامي -في تعليق للجزيرة نت- إلى توفر المغرب على بنية تحتية متقدمة تشمل موانئ إستراتيجية مثل طنجة والداخلة والعيون، واستقرارا سياسيا وأمنيا، وخبرة تعدينية متراكمة، وشراكات دولية، وهذا ما يمكن أن يمنحه فرصة ليصبح مركزا لوجستيا وتصنيعيا للمعادن، وشريكا مغريا للمستثمرين الدوليين، خصوصا في سياق الانتقال نحو الاقتصاد الأخضر.

ويعتقد الخبير الإستراتيجي والأمني هشام معتضد أن القفزة الأهم في الحسابات الإستراتيجية للمغرب تتمثل في مشروع تكرير الليثيوم الذي أعلن عنه بتمويل إجمالي مرحلي يقدر بنحو 5.5 مليارات درهم (600 مليون دولار) للمرحلة الأولى، وقدرة مستهدفة في مراحل لاحقة تقدر بحوالي 90 ألف طن سنويا من مكافئات الليثيوم.
ويوضح -في تصريحات للجزيرة نت- أن هذا التحول من مورد خام إلى منتج مكرر يجعل الرباط لاعبا في خريطة سلاسل بطاريات السيارات الكهربائية، ومن ثم يمنحها ورقة تفاوض صناعية مع أوروبا وآسيا، والأهم هو تملك القدرة على ربط هذا الإنتاج بحوافز صناعية وصفقات أمنية.
قوة إستراتيجية
يمتلك المغرب ثروة معدنية إستراتيجية قد تغير قواعد التنافس في الاقتصاد الأخضر العالمي، خصوصا من خلال الفضة والذهب والكوبالت مع إمكانيات توسع نحو معادن البطاريات.
وهو ما يبرزه خبير التخطيط الإستراتيجي، مستندا إلى صعود المغرب إلى المرتبة 18 عالميا والأولى أفريقيا في "مؤشر جاذبية الاستثمار المنجمي 2024" مما يعكس استعداد رأس المال الدولي لدعم مشاريع استكشاف أكثر تطورا.
وبدوره يبرز الأكاديمي المغربي معتضد أن اهتمام المملكة بالمعادن الأرضية النادر وامتلاك تقديرات استكشافية تصل لعشرات الآلاف من الأطنان تضعاها شريكا إستراتيجيا محتملا في سلاسل التكنولوجيا العالمية، من اتصالات إلى إلكترونيات عسكرية.

ويؤكد أن استثمارات البنية التحتية اللوجستية، بما في ذلك الموانئ وخطوط الربط، والتي تقدر قيمتها بأكثر من مليار دولار، تمنح المغرب قدرة على التحكم في تصدير المعادن واستغلال النفوذ الإقليمي.
إعلان
ويوضح أن الحفاظ على الاحتياطيات الإستراتيجية يتيح دخلا سنويا إضافيا ومواقف تفاوضية أقوى في أزمات العرض العالمية، بينما قوة المغرب الحقيقية يمكن أن تستثمر في سن سياسة "قوة ذكية" تجمع بين بنية صناعية قوية وحكامة شفافة ودبلوماسية نشطة لتعزيز موقعه الإستراتيجي العالمي.
إصلاح قانوني
يشكل الإصلاح القانوني من أهم عناصر دعم القطاع المعدني، إذ يسعى المغرب إلى تحسين الإطار التشريعي والتنظيمي للمعادن الإستراتيجية.
ويشير سوحسو إلى أنه بالرغم من إصلاح القانون المنجمي سنة 2015 -الذي سمح بتوسيع تراخيص الاستكشاف حتى 600 كيلومتر مربع بدلا من 16 كيلومترا مربعا، وإطلاق البرنامج الوطني للخرائط الجيولوجية بمقياس 1/50000 مع تغطية جيوفيزيائية خاصة للأطلس الصغير- يظل المغرب قليل الاستكشاف مقارنة بإمكاناته.
ومن جهتها تبرز البرلمانية الفتحاوي ضرورة وضع إطار تشريعي واضح ومشجع للاستثمار في المعادن الإستراتيجية، وتعزيز الاستكشاف المنجمي وتثمين الموارد المعدنية محليا، وتقوية سلاسل التوريد وتقليل الاعتماد على الخارج، وإدماج هذه المعادن ضمن النموذج التنموي الجديد للمغرب.

وتؤكد الفتحاوي أن تحسين الإطار الإستراتيجي والمؤسساتي المنظم للأنشطة المرتبطة بالمعادن الإستراتيجية والحرجة (النفيسة) يكون بوضع خارطة طريق خاصة بهذه المعادن والإسراع بالمصادقة على بعض النصوص التنظيمية، بما يتوافق مع توصيات المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي.
ويأتي برنامج التخريط الجيولوجي الوطني 2021-2030 كآلية عملية لدعم هذا الإصلاح، حيث يغطي نحو 197 ألفا و500 كيلومتر مربع، ويهدف إلى إنشاء بنية تحتية رقمية وجيولوجية متقدمة تدعم الاستكشاف وتطوير مشاريع التعدين الإستراتيجي.
ويظل نجاح المغرب مرتبطا بتكامل الجهود بين الدولة والقطاع الخاص والمجتمع المدني لضمان استغلال مستدام ومتوازن للثروات المعدنية.
0 تعليق