عرفان أحمد: رحلتي الأكاديمية تحولت لنقد معرفي "للاستشراق الهندوسي" الحديث - الكويت الاخباري

0 تعليق ارسل طباعة

علاء الغربي

5/7/2025-|آخر تحديث: 12:55 (توقيت مكة)

لطالما ارتبط مصطلح "الاستشراق" في أذهاننا بالهيمنة المعرفية الغربية على الشرق. لكن، ماذا لو كانت أدوات الهيمنة هذه قادرة على التشكل من جديد داخل السياقات المحلية؟ ماذا لو تحولت المعرفة الوطنية نفسها إلى "استشراق داخلي" يُقصي مكونات أصيلة من المجتمع؟

وهذا هو التحدي الفكري الذي يطرحه مفهوم "الاستشراق الهندوسي" وهو المصطلح النقدي الذي صاغه أستاذ علم الاجتماع والأنثروبولوجيا عرفان أحمد. فمن خلال هذا المفهوم، لا يكتفي بتوسيع دائرة نقد إدوارد سعيد، بل يكشف عن بنية معرفية منظمة في الهند تقدم الإسلام والمسلمين كـ"آخر" دخيل، في عملية تشبه إلى حد كبير آليات الاستشراق الكلاسيكي.

وفي رحلته الأكاديمية التي امتدت من الهند إلى أوروبا وأستراليا، وصولًا إلى كرسي الأستاذية بجامعة ابن خلدون في إسطنبول، حوّل أحمد تجربته الشخصية كطالب شعر بالاغتراب داخل فصول دراسية مؤممة، إلى مشروع فكري رصين يتحدى المسلّمات.

وعلى هامش مشاركته في "المؤتمر الدولي للاستشراق" بالدوحة، حاورت الجزيرة نت الأستاذ الأكاديمي، في حوار يغوص في أعماق نشأة هذا المفهوم، ويستكشف كيفية تفكيك الهيمنة المعرفية بعيدًا عن الشعارات، وبمنهجية نقدية أكثر تأصيلًا وعمقًا، فإلى الحوار:

كيف تبلور لديك مفهوم "الاستشراق الهندوسي" وما العوامل الشخصية التي ساهمت في تشكيله؟

إن صياغة المفاهيم وابتكار مصطلحات جديدة يشبه المسار التجريبي لحياة المرء، وهو في الوقت ذاته مسار مفهومي (مفاهيمي). فجزء من السبب الذي دفعني إلى تبني هذا المسار كان نابعا من التجربة الشخصية، وتحديدا من الطريقة التي تلقيت بها تعليمي. فقد نشأت في الهند، والتحقت أولا بمدرسة إسلامية، ثم بمدرسة حكومية، ثم انتقلت إلى الجامعات.

وفي الجامعة، التي كانت في دلهي، لم تكن الكتب الدراسية التي تعلمتها، ولا طريقة تناولهم لمسائل الإسلام والمسلمين، مُرضية، بل كانت متحيزة بشكل كبير. وكان هذا أمرا يلاحظه أي شخص يملك قدرا من الوعي، لكن بسبب قوة الهيمنة الوطنية، لم يكن من السهل على أحد أن يفهم حقيقة ما يجري. فالأمر يتطلب جهدا كبيرا ووعيا نقديا متراكما.

في الجامعة، التي كانت في دلهي، لم تكن الكتب الدراسية التي تعلمتها، ولا طريقة تناولهم لمسائل الإسلام والمسلمين، مُرضية، بل كانت متحيزة بشكل كبير. وكان هذا أمرا يلاحظه أي شخص يملك قدرا من الوعي، لكن بسبب قوة الهيمنة الوطنية، لم يكن من السهل على أحد أن يفهم حقيقة ما يجري. فالأمر يتطلب جهدا كبيرا ووعيا نقديا متراكما.

لقد كانت رحلة طويلة بالنسبة لي، رحلة البحث عن كيفية التعبير عن شعور عدم الرضا الذي لازمني كطالب، سواء في سياق التدريس أو البيئة الأكاديمية عموما. وحين أقول إن المعرفة في الهند مؤممة إلى حد كبير، فأنا لا أتحدث عن تجربة فردية فقط، بل عن حالة عامة. فاستيعاب المعرفة، في مثل هذا السياق، يعني أيضا أن علينا نزع هويتنا الوطنية، لأن المعرفة والقومية كانتا متداخلتين بعمق. لذا استغرق الأمر مني وقتا طويلا لتحليل ما هو سبب هذا الشعور بعدم الرضا، وكيف يتجلى.

إعلان

وبخلاف ذلك، فإنه في الفصل الدراسي -بالمناسبة- لم يكن الأمر مقتصرا على محتوى الكتب الدراسية فحسب، بل يشمل كذلك طبيعة الأسئلة المطروحة، والحوارات التي تدور في الندوات والمؤتمرات، وغير ذلك من الفضاءات الأكاديمية. لذا فإن البيئة الوطنية بمجملها تفرض نمطا معينا من الحوار عليك أن تتأقلم معه. وأعتقد أن المعرفة المناهضة للاستعمار لا تقتصر على التشكيك في هذه المعرفة المؤممة فحسب، بل تمتد لتشمل أيضا البحث عن بديل لها. ولكن الوصول إلى بديل لا يكون ممكنا إلا بعد تشخيص المشكلة الحقيقية، وهذه مهمة شاقة ومعقدة.

لذا، يمكنني القول إن رحلتي كانت تجريبية في البداية، لكن الرحلة التجريبية وحدها لا تكفي، إذ يجب تحويل هذه الرحلة التجريبية إلى اختبار مفاهيمي. وعندما يندمج البعد التجريبي مع المفاهيمي نصل إلى عمق أكبر في الفهم. كما قال طلال أسد في وقتٍ ما إن أي أفكار -ساهم بها في مجال الأنثروبولوجيا أو الفلسفة أو مسألة الأخلاق- لها جذورها في الحياة التي عاشها. وهذا صحيح، لكن هذا لا يعني أنه لا يمكن للمرء أن يتوصل إلى مفهوم جديد إلا بعد تجربته، وهذه ليست النقطة المهمة أيضا، لكن الأمر الأساسي الذي يجب مراعاته هو كيفية تحويل تجربتك إلى سؤال مفاهيمي. وهذا ما يتطلب جهدا كبيرا وتأملا عميقا.

نشأت في الهند، وانتقلت من المدارس الإسلامية إلى الحكومية، ثم إلى الجامعات. وخلال هذه الرحلة التعليمية، كنت أقرأ في الكتب الدراسية ما يخبرك أن الإسلام دين دخيل، وأنه قوة خارجية دخلت الهند، وأنه غير مرغوب فيه. وكان يفسر دائما على أنه غزو

ما الذي دفعك لتطوير مفهوم "الاستشراق الهندوسي" وكيف تكشّف لك بوصفه نظاما معرفيا يتجاوز الصور النمطية والتجارب الفردية؟

أجل، كما ذكرت سابقا، فقد نشأت في الهند، وانتقلت من المدارس الإسلامية إلى الحكومية، ثم إلى الجامعات. وخلال هذه الرحلة التعليمية، كنت أقرأ في الكتب الدراسية ما يخبرك أن الإسلام دين دخيل، وأنه قوة خارجية دخلت الهند، وأنه غير مرغوب فيه. وكان يفسر دائما على أنه غزو، على سبيل المثال. وبمجرد قراءة هذا الكلام، والنظر إلى سياق ما بعد حرب 11 سبتمبر، يمكنك أن ترى أن الأمر لم يكن مقتصرا على الهند فقط، بل كان جزءا من نقاش عالمي حول الإسلام والإرهاب.

وعندما ذهبت إلى مدارسهم أو جامعتهم، وتعلمت أشياء من هذا القبيل، كان الأمر كما لو أنني كنت أنا المشكلة. وبالمناسبة، في هذه الجامعات، لا نجد سوى عدد قليل جدا من الطلاب المسلمين، بينما الغالبية العظمى من الطلاب من الهندوس. ثم عليك دراسة "المجتمع الهندي" و"الحضارة الهندية" ويُقال لك إن الإسلام مشكلة، وهي مشكلة سلبية، وإذا كان المدرس هو من يدرس هذه المادة، فإن زملائي ينظرون إلي وكأنني أنا المشكلة. وهذا نوع من "التشييء" وربما تبدو الكلمة قاسية، لكنها الأقرب إلى فكرة نزع الصفة الإنسانية. فأنا أجلس معهم في نفس الفصل، لكن على عكس أصدقائي الهندوس، أشعر وكأنني موضع الاتهام، لأن الإسلام -بحسب هذا الطرح- غريب عن الهند، ووجوده فيها أمر يجب التخلص منه بدلا من الافتخار به.

إعلان

وهذه التجربة دفعتني إلى التفكير في أن المسألة لا تتعلق بكتاب دراسي سيئ، أو بمحاضر متحيز، أو حتى بباحث يقدم طرحا سلبيا هنا أو هناك. فالمشكلة أعمق من ذلك، إنها ليست في الأفراد، بل هي مسألة معرفية. فلماذا يقول الأستاذ الشيء نفسه المذكور في الكتاب؟ ولماذا يأتي باحث من الخارج ليكرر الفكرة ذاتها؟ بل وحتى بعض العلماء الهنود يرددون الطرح نفسه؟ ثم الأجانب كذلك؟

وبدأتُ بدراسة هذا الأمر، ثم أدركتُ أنه ليس مجرد تحيز فردي من قِبل أ، ب، أو ج، أو من قِبل الكتاب المدرسي، بل هناك نظام معرفي منظم ينتج هذه الصورة بشكل متماسك، وليس مجرد مجموعة من الانطباعات أو الصور النمطية. المسألة تتجاوز الصور النمطية، فثمة طريقة تنظم بها المعرفة بحيث تقدم الإسلام والمسلمين كغرباء أو شيء دخيل.

توصلت إلى صياغة مفهوم "الاستشراق الهندوسي". وجوهر هذا المفهوم أن المسلمين هم "الآخر" الأساسي في هذا البناء المعرفي. وربما يمكن القول إنهم الآخر الأوضح، لكنهم ليسوا الوحيدين، فهناك أيضا آخرون، كأفراد الطبقات الدنيا وسكان القبائل، ممن يتم تهميشهم أو نزع الشرعية عنهم ضمن هذا الإطار المعرفي

وبعد دراسة هذه الظاهرة وتحليل جذورها، فكرتُ أنه علينا تحديد جوهر المفهوم، وتوصلت إلى صياغة مفهوم "الاستشراق الهندوسي". وجوهر هذا المفهوم أن المسلمين هم "الآخر" الأساسي في هذا البناء المعرفي. وربما يمكن القول إنهم الآخر الأوضح، لكنهم ليسوا الوحيدين، فهناك أيضا آخرون، كأفراد الطبقات الدنيا وسكان القبائل، ممن يتم تهميشهم أو نزع الشرعية عنهم ضمن هذا الإطار المعرفي.

وهنا، يجب التنبيه إلى أن مفهوم "الاستشراق الهندوسي" لا يقتصر على الإسلام والمسلمين فحسب، كما أنه لا يقتصر على حدود الهند. فالمعرفة عن الهند نفسها مرتبطة بإرث استشراقي غربي طويل، وهي دراسة أُنتجت في بريطانيا وألمانيا وفرنسا، ثم لاحقا في الولايات المتحدة. لذا سترى أن ما يُسمى البعد شبه القاري مرتبط بالتشكيل الغربي للمعرفة.

لذا فبهذا المعنى، يسمح "الاستشراق الهندوسي" بدراسة كيفية تطور تشكيل المعرفة. وبالمناسبة، هذا النوع من الاستشراق لم يتطور بالأمس. ولذا، عندما نستخدم مصطلح الاستشراق الجديد، على سبيل المثال، نجد فيه شيئا جديدا، ولكن علينا أيضا أن ندرك أنه لم ينشأ فجأة، ولهذا الأمر جذور تاريخية عميقة. ولعل وصف "الجديد" هنا يشبه ما نراه في عالم الإعلانات، مثلما ترى معجون أسنان بالسوبرماركت التركي مكتوبا عليه "yeni – يني" (أي: جديد) في حين أنه في الحقيقة ليس جديدا تماما.

وفكرة الاستشراق الجديد تحمل في طياتها شيئا جديدا، ولكنه ليس مفاجئا. وهناك دائما ما يسبقه. ولذا، هذه إحدى الطرق العديدة لتفسير فكرة الاستشراق الهندوسي.

كيف يمكن للجيل الجديد أن يتعامل بشكل نقدي وموضوعي مع المعرفة التي تشكلها أطر مثل الاستشراق الهندوسي، بدلا من الاعتماد على الشعارات المجردة؟

أعتقد، كما تعلمون، أننا بحاجة إلى تجاوز ما يسمى الشعارات. ففي مناخنا اليوم، وفي البيئة الأكاديمية التي نعيش فيها، أصبح من الشائع جدا أن نسمع عبارات مثل "هذه المعرفة أوروبية المركز" أو "نحن بحاجة إلى تجاوز المركزية الأوروبية" أو حتى "علينا التخلص من هذا النمط من المعرفة".

ولكن، قبل إطلاق أي من هذه الادعاءات، فإن الشرط الأول -لا سيما من منظور أكاديمي- هو معرفة الموضوع الذي نريد انتقاده تحديدا. لأنه ما لم ندرك على وجه التحديد ما هي المركزية الأوروبية، فلن نتمكن من نقدها فعليا.

نصيحتي للشباب: لا تقعوا في فخ هذه الشعارات فحسب، بل اذهبوا وادرسوها، واعرفوها بأدق تفاصيلها. ثم طوروا نقدا، لأنه حينها فقط سيكون نقدكم سليما جدا ويمكن أن يكون بديلا فعالا. وما لم تفحصوا مكوناتها وبنيتها، فإن مجرد القول إن بعض النظريات أو المفاهيم ذات مركزية أوروبية لا يكفي

ولهذا أعتقد أن الجيل الأصغر سنا بحاجة إلى تجاوز الشعارات المجردة. فقبل أن تنتقدها، حاول أن تتعمق خطوة بخطوة وتكتشف ماهية المركزية الأوروبية، وكيف تطورت، وما هي الركائز المفاهيمية لها. وبمجرد أن نعرفها من الناحيتين المنهجية والنظرية، وبمجرد أن نتعرف على مكوناتها المختلفة، وبنيتها، وأسلوبها المنطقي في الحجج، حينها فقط سنكون قادرين على تفكيكها.

وبمجرد أن ندرك هذه الأسس من الجانبين المنهجي والنظري، ونتعرف على مكوناتها المختلفة، وبنيتها، وأسلوبها المنطقي في بناء الحجج، عندها فقط يمكننا أن نشرع في تفكيكها بوعي.

إعلان

ولذا، نصيحتي للجيل الشاب هي: لا تقعوا في فخ هذه الشعارات فحسب، بل اذهبوا وادرسوها، واعرفوها بأدق تفاصيلها. ثم طوروا نقدا، لأنه حينها فقط سيكون نقدكم سليما جدا ويمكن أن يكون بديلا فعالا. وما لم تفحصوا مكوناتها وبنيتها، فإن مجرد القول إن بعض النظريات أو المفاهيم ذات مركزية أوروبية لا يكفي. حتى لو قلت هذا، فمن واجبك أن تثبت أيضا، ليس فقط ادعاء أنها أوروبية المركز، بل أيضا إثبات كيفية ذلك، ثم تقديم بديل تدريجيا.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق