العمارة العسكرية المغربية جماليات ضاربة في التاريخ ومهدها مدينة فاس - الكويت الاخباري

0 تعليق ارسل طباعة

تمثل العمارة العسكرية في المغرب أحد أبرز النماذج المعمارية الضاربة في القدم، إذ تبدو جمالياتها بارزة مقارنة بأنماط معمارية أخرى. ففي مدينة فاس، التي تعتبر من أكثر المدن التاريخية أصالة من حيث أنماطها المعمارية، نجد فضاءات شيدت بهذا النوع من العمارة.

فزائر المدينة يعثر على ملامح العمارة ذات البعد العسكري في مواقع عدة، مثل: باب الجيسة، وباب المحروق، وباب القصبة القديمة، وباب بوجلود، وباب الحديد، وباب الفتوح، وقصبة الشراردة، وقصبة تمدارت، وغيرها من المباني ذات الطابع العسكري.

وهذا يعني أننا أمام مدينة لطالما لعبت دورا عسكريا مهما في تاريخ المغرب، باعتبارها فضاء حيويا لظهور هذا النوع من العمارة، الذي نجده أيضا في عدد من المدن التي شكلت عواصم في مراحل مختلفة من التاريخ المغربي.

Fes, Morocco - Oct 15, 2019: The fortress in Fez. Kasbah Cherarda is a kasbah in the city of Fez, Morocco on the northern outskirts of Fes el-Jdid. Also known as Kasbah el-Khemis, the Thursday Fort
"قصبة الشراردة" معمار عسكري شامخ، ينتظر من يعيد قراءة تاريخه وجمالياته المنسية (شترستوك)

غياب المؤرخ الفني

على الرغم من أن المصادر التاريخية تتحدث عن أشكال معمارية أخرى لم تعد موجودة على أرض الواقع، فإن الزائر للمدينة يجد نفسه أمام خلطة حضارية مركبة يصعب الإمساك بها ومعرفة ملامحها الجمالية وتطورها التاريخي وأبعادها الفنية.

لذلك، فإن المجال المعماري والبحث في تاريخ الفنون عموما لم يحظ باهتمام كبير من لدن الباحثين المغاربة والعرب، مقارنة بالتاريخ السياسي ونظيره الاجتماعي.

فهذا المبحث العلمي ظل مغيبا داخل المدونة التاريخية، لأسباب في مجملها علمية، ترتبط بالتكوين داخل الجامعات والمعاهد. إذ لا يتوفر المغرب، رغم حداثة تعليمه وثقافته، على شعب أو مواد تدرس فيها فنون العمارة، سواء داخل شعب التاريخ بكليات الآداب والعلوم الإنسانية، أو حتى ضمن برامج معاهد علم الآثار التابعة للمنظومة التعليمية.

لذلك، فإن تهميش ثقافة المعمار يظل تهميشا بنيويا، مرتبطا بغياب المؤرخين الفنيين الذين يعدون من أبرز الحلقات المغيبة في تاريخ الثقافة المغربية والعربية عموما. والحقيقة أن هذا التهميش الذي يطال الفن نابع من كون الثقافة العربية شفوية، تراهن على المكتوب أكثر من البصري.

إعلان

فلا غرابة، إذًا، في ألا تطالعنا أبحاث ودراسات عن تاريخ الفنون المغربية، بكل ما يتصل بها من معمار وموسيقى وفنون تشكيلية وسينما، في مقابل وفرة الكتابة التاريخية ذات الصلة بالسياسة والمجتمع والاقتصاد. ناهيك عن كون المعمار يتقاطع من حيث الاهتمام والبحث والدراسة بين تخصصين مختلفين هما التاريخ وعلم الآثار، إذ حتى وإن تقاطعا على مستوى العدة المنهجية، فإنهما يلتقيان حسب الغاية والجدوى من وراء البحث في المجال المعماري.

The impressive Bab Mahrouk gate in Fez, with its rammed-earth walls, crenellations, and historic arched openings.
"باب المحروق" من أبرز نماذج التلاقي المعرفي بين الأركيولوجي والمؤرخ (شترستوك)

المؤرخ والأثري

حين يحفر الأركيولوجي عن بقايا آثار العمارة العسكرية، فإنه يتتبع الكتابات التاريخية التي دبجها المؤرخون عن بعض الدول والإمارات، ما يعني أن الكتابة التاريخية تكاد تكون المصدر الأول بالنسبة لعلماء الآثار وهم يستقون منها معلومات عن أماكن تاريخية تهم البحث فيها.

إن الباحث الأثري يعمد إلى المصادر التاريخية من أجل التحليل والتفسير، انطلاقا مما يعثر عليه من شواهد ولقى أثرية وتحف فنية مختلفة، مما يقوده إلى التدقيق في الآثار وتحديد أعمارها والمراحل التاريخية التي تنتمي إليها.

في حين يعمل المؤرخ الفني المهتم بالعمارة على كتابة دراسات علمية، انطلاقا مما يوفره له عالم الآثار من معلومات عن الطرز المعمارية، والنصب الأثرية، والتحف الفنية، والزخرفة وغيرها. فهو يبني مادته التأريخية اعتمادا على المادة الأركيولوجية التي يستقيها من الميدان.

فتقاطع وتلاقي المؤرخ والأركيولوجي لا يشكل حاجزا بالنسبة للباحث كما قد يعتقد، بل يمثل أفقا علميا يتيح له إمكانية كتابة بحث تاريخي علمي يمزج في ثناياه بين المعرفة التاريخية المستندة إلى المصادر والتحف، وتحليل أصيل لمختلف مظاهر العمارة العسكرية، وما يربط جمالياتها من صلة بين الأبراج والأسوار والأبواب والقصبات وغيرها.

ويأتي تكامل هذه العلاقة في سياق الطفرة الإبستمولوجية التي شهدها مجال البحث التاريخي، وذلك بعد توسيع مفهوم الشاهدة أو الوثيقة التاريخية. إذ إن المدرسة المنهجية أو الوضعية، مع شارل سينيوبوس ولانغلوا، ظلت تنظر إلى التاريخ وفق رؤية تقليدية تربطه بمفهوم الحدث.

في المقابل، عملت مدرسة الحوليات، مع كل من مارك بلوك، ولوسيان فيفر، وفرناند بروديل لاحقا، ضمن ما سمي بـ "التاريخ الجديد"، على توسيع مفهوم الوثيقة ليشمل النصب الأثرية، والتحف الفنية، والأفلام، واللوحات، والصور الفوتوغرافية، والمسكوكات (أو النميات)، والأدب التاريخي، وغيرها.

ومنذ تلك اللحظة، أصبح من حق المؤرخ أن ينفتح على وثائق جديدة، منها ما يقدمه عالم الآثار من لقى أثرية تلعب دورا بارزا في تطوير الكتابة التاريخية. فهذا الانفتاح على وُرش ومختبرات علماء الآثار ساعد المؤرخ نفسه على الكتابة وفق نزعة علمية مختلفة، لا تستقرئ التاريخ انطلاقا من المصادر والوثائق التقليدية فحسب، بل أيضا من الأبواب، والأسوار، والأفلام، ومحاكم التفتيش، على سبيل المثال.

العمارة العسكرية في المغرب
منير أقصبي: توظيف بعض الأبراج يسهم في التنمية، مثل برج سيدي بونافع وبرج بوطويل (الجزيرة)

ملامح العمارة العسكرية

يقصد بالعمارة العسكرية كل بقايا التحف الأثرية التي أنجزت لغايات عسكرية، مثل الأسوار، والتحصينات، والأبراج، والخنادق، والمعسكرات، وغيرها. ونظرا لقيمة هذا الشكل المعماري، فإن المؤرخين والمصممين يعتبرونه نوعا من أنواع الهندسة المعمارية، فهو نمط له تاريخه وجمالياته في المغرب، بحكم وجود العديد من المدن التي تتميز بهذا النمط المعماري المختلف من حيث الشكل والنسق.

ورغم وجود العديد من المدن المغربية التي تتوافر على هذا النموذج من العمارة العسكرية، فإن مدينة فاس تظل أكثر المدن التي عرفت انتشارا واسعا لهذا النمط، وذلك بسبب الأدوار التاريخية التي لعبتها، والمكانة الاعتبارية التي راكمتها من الناحية السياسية.

يقول الباحث منير أقصبي، في حديث خاص لـ "الجزيرة نت"، إنه بمجرد أن "نحصي في الميدان حاليا بفاس ما تبقى من تحصينات تاريخية (قصبات، وأبراج، وأسوار، وأبواب)، نجد أنها لا تمثل سوى الثلث مما شيد لأغراض حربية على مدى تاريخها. وأقدمها يعود إلى الفترة الموحدية، وأحدثها إلى فترة الاستعمار الفرنسي".

إعلان

ويوضح أن "هناك أشكالا وتصاميم مختلفة، إذ يمكننا من عدة نماذج رسم صورة واضحة لتطور العمارة العسكرية في المغرب عموما؛ (أبواب ذات مدخل مباشر وأخرى مرفقية، أبراج مستطيلة أو ذات شكل محرود أو نجمية، شرافات مختلفة هرمية ومسننة، وغيرها)".

ويضيف: "واقعها لا بأس به، على اعتبار أن أغلبها استفاد من الترميم. فهناك بعض الأبراج تحتاج إلى توظيف لتسهم في التنمية، مثل برج سيدي بونافع وبرج بوطويل، وبعض القصبات تحتاج إلى الإفراغ التام من محتليها لمباشرة ترميمها وتأهيلها، مثل قصبة مولاي الحسن. وقد تم تقييد أغلبها في عداد الآثار الوطنية".

Medieval city gate Bab el Mahrouk in Fes, Morocco
الأسوار والقصبات والأبراج، تظل في حالات كثيرة مجرد أطلال، تدفع الباحث إلى طرح أسئلة قلقة عن هذه العمارة وتاريخها وجمالياتها (شترستوك)

أما عن طراز العمارة العسكرية بفاس، فيقول إنها تتميز "بالطابع الحربي الصرف، حيث إن سمك أسوارها المصنوعة من الطابية يصل إلى أكثر من مترين، وتخلو من العناصر الزخرفية. فقد كان التركيز في هندستها على مناعتها وقوة صمودها. هناك أسوار مزدوجة في فاس الجديدة، وعدد كبير من الأبراج حول القصر الملكي لحراسته جيدا. أما واجهات الأبواب، فتخلو من الزخارف الكثيرة، ما عدا بعض التشكيلات الهندسية مثل الشبك".

وفي الوقت الذي حظيت فيه أنماط معمارية أخرى بنصيب وافر من الدراسات العلمية، سواء من لدن باحثين عرب أم أجانب، ظلت العمارة العسكرية بمنأى عن كتابات الباحثين، وكأن الأمر يتعلق بعمارة محظورة لا ينبغي الاقتراب منها.

في حين أن هناك دراسات أخرى اهتمت بالعمارة الدينية، وصدرت عنها أبحاث أصيلة رصدت سيرة بعض المساجد وتاريخها، إلا أن هذه الدراسات نفسها ركزت في مجملها على الجوانب التاريخية المتفرقة في المصادر الوسيطية، ولم تعن عناية كافية بالجانب الاستطيقي للعمارة، مما يضع القارئ أمام كتابة تاريخية أحادية المنظور المعرفي، كونها لا تستلهم مناهج حديثة أو تخصصات موازية.

إن ما يوجد اليوم من أسوار وقصبات وأبراج، يظل في كثير من الحالات مجرد أطلال، تدفع الباحث إلى طرح أسئلة قلقة عن هذه العمارة وتاريخها وجمالياتها. غير أن الملاحظ فيها أنها تنتمي إلى حقب زمنية مختلفة، وهو ما منح هذا الشكل المعماري بعدا مركبا من حيث خصائصه الفنية البسيطة.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق