أروى صالح.. صوت انتحر حين صمت الجميع - الكويت الاخباري

0 تعليق ارسل طباعة

في 7 يونيو/حزيران 1997 سقطت الكاتبة المصرية أروى صالح من شرفة في الطابق العاشر، وتركت على الطاولة كتابا وحيدا يحمل عنوانا دالا "المبتسرون.. دفاتر واحدة من جيل الحركة الطلابية".

لم يكن ذلك مجرد انتحار فردي، بل صدمة ثقافية ما زالت أصداؤها تتردد في وجدان من اختاروا الصدق مع أنفسهم، كانت تلك القفزة الأخيرة خلاصة تجربة فكرية وإنسانية بلغت مداها عندما عجزت الكلمات عن الاحتمال.

برزت أروى صالح في أوائل السبعينيات باعتبارها إحدى القيادات الطلابية اليسارية التي واجهت النظام السياسي في واحدة من أعقد لحظات مصر الحديثة، انخرطت في تنظيمات ماركسية سرية، خاصة مجموعة "العمل الشيوعي المصري"، واعتُقلت وتعرضت لما وصفته لاحقا بـ"الخذلان المزدوج"، من الدولة ومن رفاق الطريق، لكنها لم تغادر الفكرة، بل اختارت لاحقا أن تكتب عنها بشجاعة من داخل جرحها.

يعد "المبتسرون" واحدا من أكثر النصوص السياسية الذاتية جرأة في المكتبة العربية الحديثة.

و"المبتسرون" تعبير يشير إلى الأشخاص الذين لم يكتمل نموهم أو الذين وُلدوا قبل الأوان، وهذا الكتاب نص يعبر حدود الاعتراف إلى تفكيك الذات الثورية، وينقض الخطابات التي طالما تغنّى بها اليسار المصري عن النقاء والتضحية.

إعلان

وقد روت أروى بلغة تتراوح بين السرد والتحليل كيف تحوّل العمل الثوري في التنظيمات اليسارية إلى مجال للمساومة والتسلط الذكوري والنفاق الطبقي، وكيف تم إسكات النساء حتى داخل الحركات التي تزعم الدفاع عن الحرية والعدالة.

ربما لم تكن أروى تحاكم أحدا، بل كانت تحاكم نفسها، وحين فعلت ذلك كشفت -دون قصد أو ادعاء- هشاشة البنية الثقافية التي احتضنت جيلها، وأوهام البطولة التي ارتداها كثيرون ممن كانوا في الصدارة، لم يكن كتابها مرافعة ولا مرثية، بل شهادة قاسية من داخل الانهيار.

وثيقة لجيل مهزوم

تجاهل الإعلام الرسمي الكتاب عند صدوره، ومر الحدث الثقافي كما لو أنه لم يكن، لكن مع مرور السنوات عاد القراء إلى "المبتسرون" باعتباره وثيقة مهمة لجيل مهزوم، ومرآة جريئة تجرؤ على تسمية الأشياء بأسمائها.

تعيدنا أروى بعد 28 عاما على رحيلها إلى سؤال لا يكف عن الإلحاح: ماذا تبقّى من الثورات حين تنطفئ؟ وماذا يبقى من المثقف حين يُسكت صوته من الداخل؟

وغلاف كتاب
مع مرور السنوات عاد القراء إلى كتاب "المبتسرون" باعتباره وثيقة مهمة لجيل مهزوم (الجزيرة)

ورغم كل تلك السنوات فإن أروى صالح تعد واحدة من أبرز المثقفات المصريات اللواتي لمع حضورهن، ثم انكفأن على الذات في ما بعد عقب مراجعة فكرية حادة ومؤلمة وصلت بها في النهاية إلى الانتحار.

ولعل البعض يخاف من إعادة قراءة أروى صالح، إنهم يخشون أن يرى الجيل الجديد أن اليسار كان أحيانا أكثر قسوة من خصومه، وأن الأحلام حين تتصلب تتحول إلى أدوات تعذيب.

يذكر أن أروى صالح ولدت في القاهرة عام 1951، ودرست في كلية الآداب- قسم اللغة الفرنسية بجامعة القاهرة، عُرفت قائدة طلابية في انتفاضة الطلاب عام 1972، واعتُقلت ضمن موجة الاعتقالات التي أعقبت انتفاضة يناير/كانون الثاني 1977 (انتفاضة الخبز)، وقد تعرضت للتعذيب والاعتقال، وخرجت لاحقا من السجن بتجربة نفسية شاقة.

إعلان

صدر كتابها الأشهر "المبتسرون" عن دار ميريت عام 1996، وهو يقدم شهادة ذاتية جريئة وعارية ترصد الانهيار الداخلي لجيل كامل آمن بالثورة واليسار والتغيير، ثم تكسّر على صخور الواقع السياسي والاجتماعي وعلى التناقضات الذاتية والأخلاقية داخل التنظيمات اليسارية نفسها.

نقد جذري

في كتابها، تنتقد أروى بشراسة رموز اليسار الذين تخلوا عن مبادئهم، ولا تتوانى عن توجيه نقد جذري إلى جيلها من مثقفي اليسار المصري، خصوصا لأولئك الذين انتموا إلى الطبقة الوسطى وعاشوا تناقضاتهم دون مساءلة.

تقول "ليس هناك من هو أخطر من البرجوازي الصغير، المتعلم، الخجول، الشريف، الأخلاقي إلى حد التطهر، بالذات لو قرر أن يتدخل ليعدل "مسار التاريخ".

وبهذه الجملة الكاشفة تفكك أروى شخصية المثقف الذي يحاول الإمساك بزمام التغيير فيما يتكئ بوعي أو بدونه على ميراث من الامتياز الطبقي والرمزي.

إنها تقلب الصورة النمطية عن المناضل التقدمي، لتكشف كيف تتحول الأخلاقية الزائفة إلى قناع للتواطؤ، وكيف يصبح هذا البرجوازي الصغير -لا خصوم الثورة- هو أكثر من يهددها من الداخل.

ثم في لحظة أكثر قتامة تكتب "لقد تهاوت الحدود التي كانت واضحة حتى الأمس بين الحقيقة والزور، والخصوم والحلفاء، وأيضا بين الصواب والخطأ".

هنا، تتجاوز أروى نقد السلوك إلى نقد البنية الرمزية بكاملها متأملة الانهيار القيمي الذي أصاب جيل ما بعد السجن، ذلك الجيل الذي خرج من التجربة مهزوما لا سياسيا فقط، بل معرفيا وأخلاقيا أيضا.

بين الاقتباسين ترسم أروى ملامح انكسار تاريخي لم تصمد فيه الشعارات أمام اختبار الحياة، ولم تصمد فيه النفوس أمام هشاشتها الأصلية.

في هذا الكتاب، كشفت الكاتبة الراحلة عن تناقضات جسدية ونفسية وجندرية عاشتها نساء اليسار المصري، حيث كان الرفاق الذكور يرفعون شعارات الحرية فيما يمارسون السيطرة والعنف الرمزي والجنسي على النساء في الواقع.

أُهمل كتاب "المبتسرون" إعلاميا في حينه، لكنه أصبح لاحقا مرجعا نقديا مهما في قراءة الحركة الطلابية و"أدب المراجعة"، وفضح استبداد التنظيمات الثورية.

إعلان

وقد نالت أروى صالح تقديرا متأخرا بين المثقفين المصريين والعرب، وأصبحت رمزا لـ"مثقف الخسارة" أو "الانشقاق".

وهي تُذكر اليوم باعتبارها إحدى الكاتبات القلائل اللواتي كتبن عن انهيار الحلم الاشتراكي من الداخل، لا بوصفه خيانة فقط، بل كخديعة ذاتية شارك فيها الجميع.

ربما لم تنته قصة أروى عند السقوط، بل بدأت حيث تعثّر الآخرون في قول الحقيقة.

أخبار ذات صلة

0 تعليق