عاجل

هل يشهد العالم "انحسار القوة الأميركية"؟ تحليل فالرشتاين يكشف أسباب التراجع الهيكلي - الكويت الاخباري

0 تعليق ارسل طباعة

منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، ظلت الولايات المتحدة تتصدر المشهد الدولي بصفتها القوة العظمى، ليس فقط على المستوى العسكري والاقتصادي، بل أيضا من حيث قدرتها على فرض نموذجها السياسي والثقافي، غير أن مطلع القرن الـ21 شهد تزايدا في النقاش حول أفول هذه الهيمنة.

وفي هذا السياق، قدم المفكر والمنظر التاريخي إيمانويل فالرشتاين أطروحته المهمة في كتابه "انحسار القوة الأميركية"، حيث يناقش فيه تراجع النفوذ الأميركي ضمن إطار تحليلي موسع، يستند إلى نظريته في "النظام العالمي الحديث".

إيمانويل فالرشتاين (1930-2019) عالم اجتماع ومؤرخ اقتصادي أميركي، ويعد من المنظرين البارزين في مجال تحليل النظم العالمية. ارتبط اسمه بتطوير نظرية النظام العالمي الحديث، التي مثلت تحولا حاسما في فهم بنية الاقتصاد والسياسة على مستوى عالمي، حيث قسم العالم إلى مركز وأطراف وأشباه أطراف. ويرى أن الرأسمالية لا تفهم داخل حدود الدول، بل ضمن شبكة تاريخية مترابطة منذ القرن الـ16.

من أشهر أعماله: "النظام العالمي الحديث" (في 3 مجلدات)، و"انحسار القوة الأميركية". ترك فالرشتاين إرثا فكريا مهما، لا يزال يشكل أحد الأعمدة الأساسية في تحليل تحولات النظام الرأسمالي العالمي.

إعلان

يتألف الكتاب من سلسلة مقالات كتبها فالرشتاين بين عامي 1998 و2003، نشرت في مجلات أكاديمية ومواقع فكرية، ثم جمعت في هذا الكتاب لتشكل سردية متماسكة حول تحولات القوة الأميركية وانعكاساتها على النظام العالمي.

وقد صدرت حديثا عن مدارات للأبحاث والنشر الطبعة الثانية من هذا الكتاب، بترجمة إيزيس قاسم، ومراجعة طلعت الشايب، ويقع في 286 صفحة.

أزمة القوة الأميركية وفرضية الانحسار

يفتتح فالرشتاين كتابه بالتأكيد على فرضيته المركزية أن الولايات المتحدة لم تعد القوة المهيمنة التي كانت عليها عقب الحرب العالمية الثانية، بل إن هذا الانحسار قد بدأ فعليا منذ سبعينيات القرن الـ20، وهو الآن في مرحلة متقدمة لا رجعة فيها.

وإذ يطرح سؤالا أساسيا حول كيفية فهم هذا التحول، فإنه يرى أن السبيل الأهم لتفسيره هو نظرية النظام العالمي الحديث، التي تنظر إلى النظام العالمي بوصفه نظاما رأسماليا مترابطا منذ بدايات الحداثة الأوروبية، يخضع لدورات من الصعود والانحدار.

ما الذي يعنيه أن تكون دولة مهيمنة؟

يميز فالرشتاين في بداية كتابه بين "القوة" و"الهيمنة". فالدولة المهيمنة لا تملك القدرة العسكرية فحسب، بل تحتكر أيضا قيادة التجارة العالمية، وتفرض هيمنتها المالية والتكنولوجية والثقافية.

وبناء عليه، فقد عرفت أميركا ذروة هيمنتها بين عامي 1945 و1970، قبل أن تدخل في طور تراجعي. غير أن هذا الانحسار لا يعني الزوال، بل تآكل القدرة على فرض الإرادة وتحديد القواعد العالمية بصورة منفردة.

والأسباب الرئيسية وفق تحليله لتراجع الهيمنة الأميركية:

دورة الهيمنة الحتمية في النظام الرأسمالي

حيث يرى فالرشتاين أن الهيمنة العالمية ظاهرة مؤقتة في النظام الرأسمالي، تمر بـ3 مراحل: الصعود (التفوق في الإنتاج والتجارة والابتكار) ثم الذروة (الهيمنة العسكرية والثقافية) ثم التراجع (نتيجة تراكم تكاليف الهيمنة وصعود منافسين).

وأميركا -كما يرى- دخلت مرحلة "التراجع الهيكلي" منذ سبعينيات القرن الـ20، كما حدث مع هولندا في القرن الـ17 وبريطانيا في القرن الـ19.

إعلان

تضخم تكاليف الهيمنة 

ومرد هذا كما يرى فالرشتاين 3 أمور:

أولها: تبعات التفوق العسكري الذي أصبح عبئا اقتصاديا مع الحروب التي استمرت طويلا في فيتنام والعراق وأفغانستان. ثانيها: أن الشركات الأميركية أسهمت في صعود منافسيها (أوروبا واليابان والصين) عبر استثماراتها الخارجية، مما أفقدها التفوق الإنتاجي. ثالثها: التحول للمضاربات المالية: نتيجة تراجع الصناعة، فقد أصبح الاقتصاد يعتمد على "الرأسمالية المالية الطفيلية" التي تزيد عدم الاستقرار.

والرأسمالية الطفيلية مفهوم نقدي للرأسمالية يعبر عن نظام اقتصادي يتسم بالتركيز على التمويل والإنفاق على حساب الإنتاج الحقيقي، أو يعتمد على الاستثمارات غير المنتجة مثل المضاربة.

صعود "حركات مناهضة للنظام"

ينتقل فالرشتاين إلى البعد الثقافي، محللا أحداث عام 1968 بوصفها ثورة عالمية غيرت وجه النظام الليبرالي. ويرى في هذه الحركات الطلابية والعمالية رفضا شرعيا للمنظومة القيمية التي كانت تعد جزءا من الجاذبية الثقافية الأميركية.

لم تكن هذه الحركات فشلا، بل كانت لحظة تقويض للشرعية الأخلاقية والسياسية التي استندت إليها النخب الغربية، مما أسهم في انحسار النفوذ الثقافي الأميركي عالميا، من خلال فضح التناقض بين شعارات "الديمقراطية" وممارسات الإمبريالية، وكسر احتكار الغرب للحقيقة السياسية.

يشدد فالرشتاين على أن تراجع أميركا جزء من أزمة أعمق للنظام الرأسمالي العالمي، تتمثل في:

نضوب مصادر الربح التقليدية: بسبب ارتفاع أجور العمالة وتكاليف البيئة والضرائب. وانفجار الفجوة الطبقية: حيث تزايد الثراء الفاحش مقابل فقر متسع يقوض الاستقرار الاجتماعي. وفقدان الشرعية الأيديولوجية: بعد انهيار البديل السوفياتي، ولم تعد "الديمقراطية الليبرالية" قادرة على تبرير اللامساواة.
أميركا بلغت ذروة هيمنتها منتصف القرن الـ20 ثم بدأت تتراجع منذ السبعينيات لتواجه اليوم مآزق اقتصادية وعسكرية وثقافية ومؤسساتية (شترستوك)

أفول الليبرالية العالمية

يركز فالرشتاين في كتابه على تفكك الإطار الأيديولوجي الذي دعم المشروع الأميركي؛ أي الليبرالية العالمية. فيشير إلى أن العولمة، التي سعت الولايات المتحدة لترسيخها بصفتها منظومة ثقافية واقتصادية عالمية، بدأت تفقد جاذبيتها لدى الأطراف وحتى داخل المركز ذاته.

إعلان

ويحلل كيف أن صعود الحركات المناهضة للعولمة، وانكشاف أزمات العدالة الاجتماعية والبيئية، قلصا من الشرعية الرمزية للنموذج الأميركي.

بل ويذهب إلى أن محاولة الولايات المتحدة تصدير الديمقراطية بالقوة، كما في العراق وأفغانستان، شكلت نموذجا للفشل أكثر منها لهيمنة جديدة، وأدت إلى انكشاف الفجوة بين الأيديولوجيا والممارسة.

رد الفعل الأميركي: بين الليبرالية الجديدة والقوة الصلبة

يناقش فالرشتاين كيف تعاملت النخب الأميركية مع مظاهر الانحسار. ويرى أن أبرز الاستجابات تمثلت في الليبرالية الجديدة، التي عمقت الفوارق الطبقية وأضعفت البنية الاجتماعية، كما تمثلت في سياسة المحافظين الجدد الذين سعوا إلى التعويض عن فقدان القوة الناعمة باستخدام القوة العسكرية الصلبة. ويعد هذا النمط من السياسات علامة يأس، لا مشروعا ناجحا قابلا للاستمرار.

لذا فإن كتاب انحسار القوة الأميركية ليس مجرد عرض لتاريخ تراجع النفوذ الأميركي، بل هو بناء نظري يربط بين آليات الاقتصاد الرأسمالي، وديناميات الهيمنة، وتحولات الثقافة والسيادة في عصر العولمة. ومن خلال فصول مترابطة، يبني فالرشتاين سردية متماسكة ترى في التجربة الأميركية جزءا من نمط تاريخي متكرر لا استثناء فيه. لقد بلغت الولايات المتحدة ذروة هيمنتها منتصف القرن الـ20، ثم بدأت رحلتها في التراجع منذ السبعينيات، لتواجه اليوم مآزق متداخلة: اقتصادية وعسكرية وثقافية ومؤسساتية.

تتجلى قوة الكتاب في قدرته على الإمساك بخيوط النظرية والتاريخ معا، وتقديم إطار تحليلي لا يزال يحتفظ بقدرته التفسيرية رغم مرور عقدين على صدوره. وهو عمل لا يسعى إلى التنبؤ بمستقبل محدد بقدر ما يتيح فهما عميقا للسياقات التي تشكل حاضرنا الجيوسياسي المتصدع، وهذا ما يمنحه قيمة تحليلية تتجاوز لحظته التاريخية إلى آفاق أوسع لفهم تحولات النظام العالمي.

لا يقدم فالرشتاين هذا الانحسار بوصفه فشلا سياسيا عارضا أو نتيجة قرارات خاطئة، بل يدرجه ضمن دورة حتمية تنتمي إلى منطق تطور النظام الرأسمالي العالمي منذ نشأته في الـ16. فكما خلفت الولايات المتحدة بريطانيا في قيادة النظام العالمي، فإنها اليوم تخضع بدورها إلى سنة الانحسار، وفق تدرج طويل الأمد يبدأ بفقدان التفوق الاقتصادي والثقافي، ويتبعه التراجع العسكري والسياسي.

إعلان

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق