حاورها زياد خداش:
أن تلتقي الشاعرة علية الإدريسي البوزيدي في بلادها المغرب بابتسامة يعني أن تفهم كيف تكتب النساء الجميلات هناك الشعر. لا يكفي ان نقرأ (علية) في وسائل التواصل، سيغيب عنك بعد هائل من القصيدة. أجلس معها في ساحة تجلس فيها الطيور مع الناس يتبادلون القصص الطويلة والحزن. مر معها أمام مسرح محمد الخامس وانفجرا معاً رقصاً وجمالاً وأنتما تحصيان خطوات محمود درويش على درجات المسرح.
أجلس معها وأسمع صوتها وهي تحلل تاريخ الأمكنة، حتى التحليل التاريخي البارد تأخذك فيه إلى الشعر. أجلس معها وهي تسند أمها المريضة أو هي تقدم لك الف خيار من حلويات المغرب وتقول لك: هذه قصائد متنوعة ابحث عن ذوقك فيها.
في لغة علية الشعرية طيور كثيرة وحلويات وسفر كثير إلى اسبانيا حيث لوركا والنوافير العربية ورجل عجوز يقعد على مقعد ويفتت للطيور الخبز.
اخذتني الشاعرة في قارب داخل المتوسط واشارت الى البعيد قائلة هنا غرق ألف شاعر عالمي، ثم قادتني إلى ساحة رجل الطيور بالرباط والتقطت لي صوراً هناك ثم حكت لي عن رجل الطيور، حكت لي عنه وكأنها تكتب شعراً مقنعاً بسرد.. هنا دردشة مع علية:
* تكتبين الشعر وتعتنين بأم مريضة حد النوم قربها ساعات. هل ينمو الشعر هنا. في العناية بشخص نحبه أم ينسحب مؤقتاً لصالح عاطفة مباشرة؟
- حين نكون في حضرة من نهوى، لا سيما في كل تفاصيل الحب التي تخفف من صقيع عدم القدرة، القصيدة لا تتراجع، إنها فقط تغيّر شكلها. أحيانًا تتخذ شكل أصابعٍ تمسح جبينها المحموم، وأحياناً تصير نظرة لصوت اختفى في أعماق قلبها الأبيض. ومرات عديدة تصير لغة إشارة، تبدد غبش جلطة لعينة أصابت رأسها الصغير.
نعم، أكتبُ الشعر، لكنه لا يأتي كما الطقس في بلادٍ معتدلة، بل يتقطر حيناً، ويتفجّر حيناً، ويجفُّ في مواسم الموت
حين أكون إلى جوار أمي، الشعر لا ينمو فقط على الورق.
أكتبه، نعم، لكن ليس بالقلم. أكتبه بقلبي الممدود على عكاز أمي وأنا أسندها. اكتبه بابتسامتي الراقصة في محاولة لطرد الضجر عن وجه حسنة. أكتبه وأنا أتجول بها بين عواصم العالم. الشعر هنا ليس انسحابًا، بل تجلٍّ آخر للحب. هو وقفة وفاء، انتظار اسمي راكضاً من فمها.
لذلك ينمو الشعر في عنايتنا بمن نحب. ينمو في الداخل، يتكثّف، يتخمر، وقد ننسحب من الكتابة، لكننا لا ننسحب من الشعر. لأن الشعر في جوهره القدرة على أن نكون قرب من نحب.
لذلك العناية بمن نحب لا تقتل الشعر، بل تجبره على التواضع، على أن يكون أكثر صدقًا وأكثر عطاء. فلا تجف محبرته، ليتحوّل إلى حياة في حب حسنة والدتي، لذلك قد لا أكتب قصيدة، لكنّي أعيشها باستمرار، إذ لابد للغة أن
تخشع وانا ألمس يدها، حين أصحو على تنهيدتها.
حسنة الشاعرة الأولى التي قبل أن أفتح عينيَّ على الدنيا، كانتِ تكتبني في كل نبضة حتى صرت الشجرة بنت حسنة.
*أنت مغربية ومعلمة وشاعرة، كيف ترتبين هذه الهويات؟ كيف تحافظين على توازن ما بين مباشرة التعليم وشطح الشعر وعالمية الأدب المغربي؟
-لأني شجرة أرتّب هويّاتي مثلما ترتّب النساء أوشحتهنّ في صباح بارد؛ بحب، بذاكرة، وبحذر. لا شيء يُقصى، بل كلّ هوية تُدثّر الأخرى.
أبدأ بمغربيتي، التي هي الجذور. أنا هنا، في هذا الكون كنسيج حي تتشابك خيوطه مع بعضها البعض. لا أنسى أن العالم يبدأ من تاونات.
أما كمعلمة فأنا أزرع النظام، أسهر على وضوح الفكرة، أصقل اللغة وأعيدها إلى أبجديّتها الأولى، فمهمتي ليست مجرد تقديم دروس، بل هي أيضاً دعوة لاكتشاف الذات. أنا أعيش مع طلابي تجارب جديدة كل يوم، أرى فيهم إمكانيات لا حدود لها، أرى فيهم الفضاء الذي يمكن أن ينمو فيه الشعر والفكر. التعليم بالنسبة لي ليس مجرد وظيفة، إنه لقاء مستمر مع العقول التي أساهم في تشكيلها، وتساهم في تشكيلي انا أيضا.
وأما الشاعرة، فهي المساحة التي أهرب إليها عندما أحتاج للانفلات من كل القيود، حيث يمكنني أن أكتب بحرية عن العالم، عن الناس، عن الحب، وعن الوجع. الشعر بالنسبة لي ليس مجرد تسلية عابرة، بل هو الهواء الذي أتنفسه بعد يوم طويل من التعليم، ومن خلاله أُعيد ترتيب أفكاري وهواء العالم، لذلك أخرج عن الصف، أفتح النافذة، أسأل: ماذا وراء المقرّر؟ ماذا يفعل الحزن في دفتر التلميذ؟
التوازن؟
إنه ليس بالأمر السهل، أحياناً تنقضّ عليّ واجبات المعلمة بكل ثقلها، لكنني أدرك أن ما أقدمه في الصف هو بحد ذاته شكل من أشكال الأدب. أتعامل مع طلابي كما لو كانوا قصائد مفتوحة، كل واحد منهم له إيقاعه الخاص، ولكل درس كلماته التي يجب أن تُنطق بعناية. لكن عندما أُغلق باب الصف، أفتح نافذة الشعر. حينها أستطيع أن أترك لنفسي المجال للسفر بعيداً، بعيدا في محاولة لأكون برفقة الشعر كما في القصيدة،
في النهار أعلّم بوضوح، بلغة يفهمها الجميع، وفي الليل أكتب بلغة يفهمها سكانه البررة، وأسألني بدوري، كمن تعيش حرقة هل نحتاج للتوازن وكل هذا العالم فوضى!
*لاحظت أنك أسستِ مكتبة ممر أمام جيرانك في العمارة. ماذا يعني هذا؟ توزيع لحب؟ ام تذكير النفس الضجرة باتساع العالم؟
-هل فكرت يومًا أن تترك كتابًا عزيزًا في مكانٍ عام، وتراقب كيف يختفي؟ إن تأسيس مكتبة أمام جيراني في ممر العمارة كان بالنسبة لي محاولة حقيقية لترجمة شعور يصعب اختزاله في بضع كلمات. أحيانًا يكون لدينا رغبة عميقة في مشاركة ما نحب، في منح الآخرين فرصة لاكتشاف العوالم التي لا نراها في حياتنا اليومية المزدحمة، مكتبتي الصغيرة في الممر ليست رفًّا للكتب، بل هي نافذة بحجم كتاب مفتوح، ومحاولة خجولة لأن أقول: "أنا هنا، وأحبّ أن نقرأ معًا، ولو بصمت".
وهي توزيع لحبّ، لكنه حبّ يشبه كسرة خبز في يد عابر، أو وردة تركت على درج، لا تطلب شيئًا في المقابل. لكن فيها تذكير لنفسي، حين أهبط الدرج بوجهٍ مُطفأ من تعب اليوم، أن العالم لا يزال مليئًا بالأبواب المفتوحة؛ باب ماركيز، باب لوركا، باب إدريس الشرايبي، باب عبد الكريم الطبال، باب عبد الفتاح كيليطو، باب المعري....
نعم، هو حبٌ خفي. حب للحروف التي تحتفظ بأسرارنا، وحب للكلمات التي يمكن أن تفتح أبوابًا جديدة. فكرة المكتبة الصغيرة هي دعوة للمشاركة، دعوة للمجتمع ليحمل بين يديه شيئًا يجعله يتوقف، يفكر، أو يهرب قليلاً إلى مكان آخر. نحن أحيانًا نحتاج لهذا الهروب، رحلة قصيرة عبر الكتب التي تفتح الأفق أمامنا، لنشعر بأننا لسنا وحدنا في هذا العالم، وتذكير للنفس الضجرة باتساع العالم. فحين نشعر بالضجر، بالركود، وكأن كل شيء أصبح قريبًا جدًا، متشابهًا جدًا. عندها، يجب ان نقف على عتبة ذلك "الممر" الذي يبدو ضيقًا، لكنه في الحقيقة مفتوح على شواطئ جديدة. وكأنني أردت أن أقول لنفسي وللآخرين: "الفضاء ليس ضيقًا، العالم أكبر من هذه الجدران التي نعيش فيها." المكتبة الصغيرة كانت محاولة لتوسيع الأفق في قلب المكان الذي نعيش فيه. لتذكيرنا بأن الكتب هي جسور إلى أماكن وعوالم أكثر حياة، الأمر يشبه أن تزرعي بذرة في قلب آخر، فتسقيها بالكلمات، ثم تشاهدينها تنمو إلى فكرة أو حلم أو تأمل جذورها مشتركة معكِ. هذا التبادل في الفكرة، في العالم الذي يعبره كل منا، هو نوع من التنفس المشترك. وكل كلمة تقال أو تُقرأ تصبح جزءًا من هذا التبادل اللامحدود.
*تسافرين كثيراً. هل لاحظت اتساعاً وتنوعاً في النص كما يقال مع السفر ام خرساً أمام جمال العالم؟
-نعم أسافر كثيراً لا لأهرب، بل لأطارد ظلالي في الأزقّة الضيّقة، على أرصفة المدن، في عيون الغرباء. السفر كان دائمًا بالنسبة لي مفتاحًا لعوالم جديدة، ولكنه في نفس الوقت محكّ حقيقي للعلاقة بين الشخص ووجوده، وبين الجمال الذي يراه، والطريقة التي يستطيع التعبير بها عنه.
في السفر، تجد نفسك في مواجهة مباشرة مع عوالم لم تكن تعرفها من قبل، مع أمكنة جديدة وأشخاص، وأصوات، وروائح، وألوان، وكلها تتداخل في الذاكرة لتكوّن صورًا حية في ذهنك. وهذه الصور، في كثير من الأحيان، تكون كالفيض الذي لا يمكن إيقافه. ألاحظ أحيانًا أنه مع كل سفر يزداد النص اتساعًا، يتسع ليشمل كل شيء: من تضاريس المكان، إلى تفاعلات البشر، إلى اللحظات العابرة التي تحملها الرحلة. السفر يفتح أفقًا أوسع لتصور الجمال والتجربة، وبالتالي يضخ في النص المزيد من الأبعاد. وهذا يجعلني أرى العالم بشكل مختلف، وربما أكتب عنه بتنوع أكبر
لكن في أوقات أخرى، يسحبني السفر إلى حالة من الخرس أمام الجمال. هناك لحظات أكون فيها في صمتٍ مطلق، حيث تبدو الكلمات غير كافية لوصف الجمال الذي أمامي. قد أواجه مشهدًا طبيعياً أو تجربة إنسانية عميقة، وأشعر أن أي محاولة لوصفها ستكون قاصرة. في تلك اللحظات، يحضرني الصمت أكثر من الكلمات، كما لو أن الفم قد سدّ أمام اتساع الجمال، وهو شيء يشبه الشلل المؤقت.
يحدث أنني أشعر وكأن كل ما يقال من كلمات لن يُوفي حق تلك اللحظة أو المكان. أعتقد أن هذا الخرس أمام الجمال هو نوع من الإحساس الذي يتخطى اللغة ويعود بي إلى الوجود الصامت الذي لا يمكن ترجمته إلا بالتأمل.
لذلك، في السفر، النص يتوسع ويغتني في بعض الأحيان، بينما قد يتقلص في أحيان أخرى بسبب ذلك الاندهاش الذي يصيبني في مواجهة جمال غير قابل للترجمة. لكن الغريب أن السفر لا يملؤني دومًا بالكلمات، بل كثيرًا ما يربكني. هناك مدن جعلتني أخرس، لا لأني فقدت اللغة، بل لأني شعرت أن كل ما يمكن قوله، قيل بالفعل، في الضوء، في الحجر، في الناس والدهشة، حين تبلغ ذروتها، لا تُسعفها الكلمات.
0 تعليق