تلك كانت مقدمة لا بد منها للحديث عن شخصية من الساحل الشرقي للمملكة العربية السعودية، نسيه الكثيرون ولم يعد اسمه يتردد اليوم في الأدبيات الموسيقية، على الرغم من تشبثه بمواهبه ومحاولته الجسورة في إبراز اسمه على الصعيد الفني في الزمن الصعب، ومقاومته لكل المحاذير والمعوقات الاجتماعية السائدة آنذاك.
قدمه الإعلامي محمد الخميسي في برنامج «وينك» على شاشة قناة «روتانا خليجية» يوم 19 نوفمبر 2014 قائلاً: «من الصعب أن تجد الأسئلة مكاناً لروح فنان لم يهادنه الزمن على الدوام، ولم يقف معه الأصدقاء كما يجب، وهو الذي أوقد من روحه فتيل الهوى الصافي للحب والأهل والأرض. والعاشقين على السواء. الصوت الذي وهبته النخيل للأحساء ليغني بلون التمر وطعم التين والليمون والرمان».
حديثنا في هذه المادة هو عن المغني والملحن والفنان الشعبي السعودي «مطلق دخيل العويس» الشهير فنيا باسم «مطلق الدخيل»، الذي وُلد في السابع عشر من سبتمبر من عام 1936 (1355 للهجرة) بحي السبايب من مدينة المبرز الواقعة بمحافظة الأحساء السعودية، ابناً لعائلة متوسطة الحال. اشتهر الرجل معظم سنوات مسيرته الفنية بكنية «أبو عيسى»، قبل أن يتزوج ويرزق بابنه البكر الذي اختار له اسم إبراهيم، الشائع في مجتمعه الأحسائي، علماً بأن الأخير اقتفى أثر والده فصار هو الآخر فناناً حينما كبر، إذ التحق بشركة أرامكو وتمكن من التوفيق بين العمل والدراسة وممارسة هواة العزف على العود، تاركاً خلفه أحلامه بأن يصبح طياراً، إلى أن نال شهادة الدكتوراه في الإدارة، وأصبح ملحناً قديراً يشارك في تلحين المسرحيات ويمثل وطنه في المهرجانات الموسيقية الدولية.
التحق مطلق الدخيل بالعمل في الأمن العام مسؤولاً عن قسم الصادر والوارد، شأنه في ذلك شأن أسماء فنية سعودية عملت وخرجت من سلك الأمن، مثل الفنان القدير جميل محمود، أو عملت وخرجت من سلك القوات المسلحة مثل الفنان الكبير الموسيقار طارق عبدالحكيم (1918 ــ 2012)، الذي يُعد الأب الروحي للأغنية السعودية المطورة، وأول من طار بها إلى خارج حدود بلاده. ومما ذكره الدخيل في حوار معه في برنامج «وينك» المشار إليه، أن طارق عبدالحكيم استمع إلى صوته وعزفه خلال زيارة له إلى ستوديو تسجيل في الدمام، كان يملكه الفنان الإماراتي «محمد سهيل الكتبي» المقيم آنذاك بالدمام وأول من سجل لطارق أغنيته الشهيرة «تعلق قلبي»، فأُعجب طارق بما سمعه وتمنى مقابلة صاحبه، وهو ما حدا بالكتبي إلى استدعائه من الأحساء على عجل لمقابلة الفنان طارق عبدالحكيم.
أما تعلق الدخيل بالفن والطرب والموسيقى فقد بدأ في مطلع الخمسينات من القرن العشرين وهو في سن السابعة عشرة من عمره أو نحو ذاك، بتأثير من صديق والده خليل الرشيد، الذي كان يمتلك عوداً ويعزف عليه في جلسات السمر الخاصة. وقتها كان الطرب محظوراً في السعودية فكان هواة الغناء والموسيقى يمارسون هوايتهم خفية من خلال الجلسات الطربية الخاصة داخل غرف ومجالس مغلقة، وكان الدخيل أحد هؤلاء. لكن حبه للفن جعله يقدم في عام 1960 على تجربة جريئة بمقاييس زمنه، تجلت في تأسيس فرقة موسيقية بقيادته وعضوية عدد من أصدقائه المقربين. غير أن العائق الأبرز أمام ممارسة الفرقة لنشاطها السري تمثل في عدم توفر الآلات الموسيقية آنذاك بسبب حظر استيرادها وبيعها، ناهيك عن رفض من كان يمتلك أى آلات إعارتها للآخر، وهو الأمر الذي حرم المطلق وزملاءه من التدرب والتمرن على عزف أغاني أعلام الموسيقى المصرية والشامية والعراقية أو عزف أغانٍ من التراث الشعبي الخليجي والأحسائي.
وهكذا نجده وزملاءه يتحدون تلك الظروف بصناعة آلات موسيقية بدائية، مستخدمين صفائح الزيت المعدنية وصناديق الشاي الخشبية الفارغة مع شد أوتار بلاستيكية عليها من تلك التي تستخدم في صيد السمك، فنجحوا في صناعة عود بدائي وآلة كمان بدائية وبعض المراويس والطبول، وبدأوا تمارينهم في العزف والغناء استعداداً ليوم تنجلي فيه الأمور وتتحرر فيه الموسيقى من القيود، وتزول المحظورات ويتم خلاله الاعتراف بمواهبهم.
وقد تحققت أمنياتهم بسرعة لحسن حظهم، إذ كان تولي المغفور له الملك سعود بن عبدالعزيز مقاليد الحكم في التاسع من نوفمبر 1953 خلفاً لوالده الراحل الملك المؤسس طيب الله ثراه، ثم قيام جلالته بأول زيارة له كملك إلى المنطقة الشرقية من بلاده عام 1954، مناسبة عمت فيها الأفراح، طرباً وغناء ورقصاً، أرجاء المملكة قاطبة ومدن المنطقة الشرقية بصورة خاصة، ليُعلن على إثر ذلك السماح بالغناء وتسويق واستيراد الأسطوانات وأجهزة الغرامفون وبيع الآلات الموسيقية. ويذكر الدخيل، أنه غنى شخصياً أمام الملك الزائر في احتفال شعبي كبير أقيم على شرف جلالته في الأحساء، مؤدياً أغنية كتبها على عجل الشاعر حمدان بن ناصر ولحنها الدخيل بنفسه ومطلعها: «لك سلامي أيها الملك العظيم/ لك سلامي أيها القلب الكبير».
على أن طموح الدخيل كان أكبر من ذلك، فقد كان يطمح للشهرة وإبراز مواهبه والوصول إلى أكبر عدد من الجمهور المتعطش للطرب من خلال الأثير وبرامج الإذاعة الموسيقية، فلم يجد سبيلاً إلى ذلك سوى اللجوء إلى إذاعة البحرين اللاسلكية، التي كان بثها يصل بوضوح إلى مختلف مدن الساحل الشرقي من المملكة في أعقاب تدشينها رسمياً في الحادي والعشرين من يوليو 1955. وبالفعل طلب الدخيل من رؤسائه في الأمن العام إجازة من أجل السفر بحراً إلى البحرين للاشتراك في برنامج كانت محطة إذاعة البحرين تبثه تحت اسم «سهرة مع فنان»، غير أن رؤساءه لم يوافقوا على طلبه، الأمر الذي أصابه بالإحباط. وخروجاً من هذا المأزق وتحقيقاً لطموحه قرر أن يجازف ويتغيب عن عمله كي يسافر إلى البحرين ويسجل في البرنامج الإذاعي المذكور. عاد الدخيل من البحرين وذهب لمباشرة عمله متذرعاً بالمرض كسبب لغيابه عن عمله عدة أيام، لكن الحيلة لم تنطلِ على رؤسائه لأنهم عرفوا بوجوده في البحرين من خلال استماعهم له وهو يغني في إذاعة البحرين. وهكذا كان عقاب الدخيل على تركه العمل دون الحصول على إذن من مرجعه هو توقيفه وإيداعه السجن لمدة خمسة أيام.
«تاه الود»
تكررت زيارات فناننا إلى البحرين سعياً وراء تسجيل أغانيه على أسطوانات القار القديمة لدى ستوديوهات التسجيل المنتشرة آنذاك في البحرين، مثل تسجيلات الساعاتي وتسجيلات سالم فون وأنور فون وإسماعيل فون وإبراهيم فون وجرجي فون وغيرها. وبالفعل سجل أول أسطوانة له في عام 1958 وتلتها أسطوانات أخرى في عام 1960، فساهمت تلك الأسطوانات في انتشار اسمه على مستوى المملكة والخليج، لاسيما بعد أن أشهر فرقته الموسيقية الخاصة في عام 1962، التي شاركه في تأسيسها صديقه العازف عبدالله العماني، وحملت اسم «فرقة هجر الموسيقية» وتكونت من ستة عازفين بالإضافة إلى المؤسسين وهم: صالح العباد (على الكمان) ومحمد سنبل (على الناي) وصالح العسوم (على القانون) وعبدالعزيز التمار (على الرق) وتركي المروس (على الإيقاع). حيث راحت الفرقة تنشط في حفلات الأندية الرياضية وتحديداً نادي الفتح بالمبرز، وكذلك مناسبات الأفراح والزواج واحتفالات الأعياد وحفلات تكريم موظفي شركة أرامكو وغيرها.
على أن انتشاره وتعرف الجمهور الأعرض عليه صوتاً وصورة تحقق في عام 1960، من خلال أغنية سجلها في محطة تلفزيون أرامكو من الظهران، التي كانت قد بدأت الإرسال في السادس عشر من أيلول (سبتمبر) من عام 1957 كأول قناة تلفزيونية ناطقة بالعربية في شبه الجزيرة العربية والخليج العربي. توالت بعد ذلك مشاركات الدخيل وفرقته في محطة تلفزيون أرامكو، التي اتفقت إدارتها معه على تقديم المعزوفات الموسيقية المرافقة للبرامج والمسابقات الثقافية، وهذا ساعده بدوره في الوصول إلى تلفزيون الدمام الحكومي بعد تدشينه رسمياً في عام 1969، حيث أعد له لحناً خاصاً للأطفال وقدم من خلاله أغنية مصورة بعنوان «تاه الود» كان قد سجلها في نفس العام على أسطوانة في لبنان. ومن كلماتها: «حاولت أنسى اللي كان بيني وبينك يوم/ غصباً عني قلبي دق ودق وتذكر/ تذكر ليالينا ليالي حلوة عشناها/ جنينا زهرة الياس وعذبنا أمانينا».
وفي عام 1972 قدم لتلفزيون الدمام أغنية وطنية مصورة بعنوان «إن كنت مسافر يا خي لا يفوتك مشروع الري»، من كلمات الشاعر الشعبي الأحسائي محمد بن سعد الجنوبي (1941 ــ 2009)، وذلك بمناسبة زيارة جلالة الملك فيصل بن عبدالعزيز للأحساء لافتتاح مشروع الري والصرف بتاريخ الأول من ديسمبر سنة 1971.
أشهر أغانيه العاطفية
من أشهر الأغنيات العاطفية التي قدمها الدخيل بصوته خلال مسيرته الفنية عدا أغنية «تاه الود» المشار إليها آنفاً: «يا حمد يا عشيري»، و«أنا ويلي على خلي»، و«صبرك على الحسرات»، و«بالهون»، و«وش غيرك»، و«يا نديمي»، و«دنيا الهوى»، وصولاً إلى آخر أغانيه وهي أغنية «يا عين هلّي صافي الدمع هلّيه / وإذا انتهى صافيه هاتي شريبه» من كلمات الشاعرة الراحلة نورة الحوشان وسجلها لإذاعة صوت الخليج من الدوحة. أما أغانيه الوطنية فقد كان آخرها أغنية «ديار العز يا الأحساء» من كلمات عماد عبدالرحمن النعيم وألحان وإشراف ولده الدكتور إبراهيم الدخيل وتوزيع أحمد عبدالجواد، بدعم من شركة عبدالعزيز سليمان العفالق وأولاده في الأحساء.
حصل فناننا على العديد من الجوائز والتكريمات. ففي عام 2002 حظي بتكريم من جامعة الدول العربية في مهرجان الرواد العرب بالقاهرة، تمثل في حصوله على درع وميدالية الرواد العرب في الفن الشعبي. وفي عام 2004 كان على موعد مع تكريم آخر من قبل جمعية الثقافة والفنون بالأحساء، التي قدمت له درعاً وشهادة تقدير. وفي العام التالي احتفت به إذاعة صوت الخليج للفن الشعبي من الدوحة، وسجلت له ستّ أغنيات برفقة مواطنه الفنان عبدالله عبدالرحمن بوخوة. وفي يناير من عام 2020 فاز في مسابقة الفلكلور الشعبي إلى جانب تسعة فائزين آخرين، علماً بأن هذه المسابقة التي نظمتها وزارة الثفافة السعودية بهدف توثيق التراث غير المادي للمملكة تضمنت مشاركات توثيقية لألوان غنائية ولحنية فلكلورية باستخدام آلات موسيقية شعبية. ومن آيات التقدير الأخرى التي حظي بها داخل وطنه دعوته في عام 2009 للمشاركة جنباً إلى جنب مع كبار الفنانين السعوديين والعرب في المهرجان الوطني للتراث والثقافة (مهرجان الجنادرية السنوي).
أخبار ذات صلة
أخبار متعلقة :