عندما أصدر الكاتب الأمريكي الشهير توماس فريدمان كتابه الأكثر مبيعاً «العالم مسطح»، وهذا الكتاب كان يروّج للعولمة التامة حين يصبح العالم متصلاً ومتواصلاً، عالماً متاحة فيه حرية حركة البشر وحرية انتقال الأفكار وحرية انتقال رؤوس الأموال، وهو الكتاب الذي جاء بعد كتاب آخر حقق أيضاً مبيعات لافتة ومهمة بعنوان «اللكزس وشجرة الزيتون»، الذي كان يروّج لفكرة أن نجاح الاقتصاد والرخاء الذي يأتي معه هو ضمانة تامة للسلام المنشود. لعب توماس فريدمان دوراً ترويجياً مهماً وكان كبير المشجعين لفريق الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون وقتها عبر مقالات الرأي التي كان ينشرها في صحيفة النيويورك تايمز والمقابلات التلفزيونية المتعددة والمشاركات في المنتديات والمؤتمرات الدولية وكلها كان يردد ويؤكد على أن العولمة هي الحل لكافة مشاكل العالم السياسية والاقتصادية والاجتماعية. وأن العولمة ستقضي على الحروب وتحقق التعايش وتوزع الرخاء وتنجز السلام. تعامل الناس أو الكثير منهم ممن يتعاطون في التجارة الدولية مع ما قاله فريدمان بشكل هو أقرب لنبوءة ووعد أدلى به الرجل فالتزم به الناس. كان وعد فريدمان ببساطة أن العولمة المترابطة تقنياً المتواصلة تجارياً سترفع مستويات الدخل في معظم دول العالم وتخلق فرصاً جديدة للعمل والاستثمار والإبداع والتعايش بين الشعوب والأمم. واليوم وبعد عقدين من الزمن على وعد العالم المسطح يبدو أن الواقع غير ذلك تماماً، وبمعنى أدق أن العالم تمزق وتقطع وأصبح كتلاً متنافرة ومتباعدة ومتأهبة ومتحفزة. تسببت في هذا التحول الجديد والحاد عوامل مختلفة ومتعددة في مجالات التنافس الجيوسياسي وعدم المساواة الاقتصادية والأزمات المناخية كالانتشار المدمر لفايروس كوفيد ١٩ وآثاره العنيفة والحرب الكبرى بين روسيا وأوكرانيا والحرب التجارية الضروس بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين وأطراف أخرى.
هناك حالة عريضة من إعادة التموضع الصناعي تؤثر بشكل دقيق وعميق وواضح على تكلفة المنتج واعتمادية سلاسل الإمداد التقليدية. وهناك فجوة تقنية جديدة فجوة قوية وغير مسبوقة عمادها الرئيسي الذكاء الاصطناعي وهو الآن وبشكل أساسي في أيدي الولايات المتحدة الأمريكية في المقام الأول تليها الصين. نظام العولمة فشل في تحقيق وعوده والحفاظ على أحلامه ليتبيّن مدى هشاشته وعرضته للأخطار، ليظهر أهمية المجتمعات المحلية التي تكون بديلاً ولو مؤقتاً للاعتماد على النفس في مواجهة التحديات، وهذا يشبه تماماً الوصف الذي مال إليه وبقوة الكاتب الفرنسي سيريل ديون في كتابه «الغد: عالم جديد يصنع»، ولكن هل يمكن للعالم وبعد أن ذاق حلاوة العولمة أن يعود إلى جزر منعزلة ومتناحرة؟ هذا ما ستكشفه لنا الأيام القادمة.
0 تعليق