أحمد العمار *
نسمع كثيراً عبارات تربط جودة منتجات معينة بهذه الدولة أو تلك، فيقال مثلاً، جلد إيطالي، شاي سيلاني، ساعة سويسرية.. فكيف جرى هذا الربط والتداول لمنتجات تشير إلى دول أو مناطق جغرافية محددة، ثم ما وجه الاختلاف مثلاً بين «صناعة سويسرية» أو ساعة «رولكس» المصنوعة أساساً في سويسرا؟
الفارق الجوهري في الحالة الأولى، أنها إشارة إلى جودة الساعة ودقتها وعراقتها، التي عُرفت بها تلك البلاد، وهنا تكون سمعة المنتج وهويته مملوكة لدولة، وهو ما يعرف تجارياً ب«المؤشرات الجغرافية» «Geographical indications»، أما في الثانية، فإننا نشير إلى علامة تجارية من جملة علامات كثيرة تُصنّع منتجاتها هناك، ما يعني أنها مملوكة لشركة، لكنها تُخضِع منتجاتها لشروط الجودة المعمول بها على مستوى الصناعة والدولة.
وهذا يعني، ضرورة توافر جملة اشتراطات في المنتج، ليكتسب صفة المؤشر الجغرافي، لهذا البلد أو ذاك، واستطراداً مع مثال الساعة السويسرية، فإنه لا بد أن يكون جرى تجميعها والإعداد التقني لها والتفتيش عليها في سويسرا، وأن تكون 60% من تكاليفها و50% من مكوناتها، على الأقل، سويسرية وتراعي متطلبات محددة للجودة.
وخلافاً للعلامات التجارية، فإن المؤشر الجغرافي مصطلح حديث نسبياً، تعرفه اتفاقية «تريبس» (TRIPS)، بأنه علامة تحدد منشأ سلعة معينة منتجة في دولة عضو في الاتفاقية، تعود النوعية أو السمعة أو السمات الأخرى لهذه السلعة إلى مصدرها الجغرافي، كاستخدام مؤشر (Idaho) لنوع من البطاطا، و(Roquefort) للجبن، و(Darjeeling) للشاي.
وتحدد عوامل جغرافية كثيرة هذه المؤشرات، من بينها التربة والمناخ، كأن يتأثر مذاق السلعة أو رائحتها أو تكوينها بالتربة والمناخ والمياه وغيرهما من العوامل المرتبطة بمنشأ هذه السلعة، ما يعني أن المؤشر حق من حقوق الملكية الفكرية، يراعي المنطقة التي صُنعَ فيها المنتج، والتربة التي نما فيها، والمواد الخام التي اُنتجَ منها، إضافة إلى تقاليد وأعراف محلية وخبرات متوارثة في إعداد المنتج وتصنيعه.
وعلى الرغم من أن الأغلبية العظمى من المؤشرات هي سلع زراعية وغذائية، فإن هناك سلعاً صناعية، مثل مؤشر «Swiss» للساعات السويسرية، و«Belgian» للشكولاته البلجيكية و«Gzhel» للحرير في تايلاند، وهذا يعني جملة ظروف طبيعية وإنتاجية وتشغيلية أبرزها، المواد الأولية والعمالة الماهرة والخبرات الفنية.
بعيداً عن الزراعة والغذاء والصناعة، قد يرتبط المؤشر بمَعلم أثري شهير، مثل الأهرامات في مصر، وبرج إيفل في فرنسا، وساعة «بيج بن» في لندن، وتاج محل في الهند، وتمثال الحرية في أمريكا، كما قد يرتبط المؤشر بصور لأشخاص شهيرين، مثل صورة الفنان موتزارت ذي الأصل النمساوي.
ولكن بعد هذا العرض والإشارة إلى أهمية المؤشرات، يقفز إلى الذهن-بداهة- سؤالان مهمان: ما هي أوجه الاستفادة الإنتاجية والاقتصادية منها، وكيف يتسنى للمنتجين تحقيق عوائد من استخدامها؟
في الإجابة، تتحقق الاستفادة والعوائد، عبر استخدام المؤشر رافعةً للقطاع الذي يمثله ويتحرك فيه، فعندما يحمي بلد ما مؤشراً جغرافياً، فإنه يفتح أبواباً واسعة لتطوير الأنشطة المرتبطة به، وسأذكر هنا مثالاً عايشته بتفاصيله كلها، عندما سجلت وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك في سورية «الوردة الشامية» المعروفة باسمها العلمي Rosa damascena، أو ما تعرف في بلاد الشام ب«الوردة الجورية».
لقد توسّعت استخدامات ومنتجات هذه الوردة، التي باتت محمية، حول العالم، مؤشراً جغرافياً، ودخل ماؤها في الصناعات الطبية والصيدلانية ومستحضرات التجميل والمربيات والحلويات، ناهيك عن الأثر البيئي والطبيعي لها، إذ وفرت بيئة ملائمة لتربية النحل، لاسيما أنها تزرع بعلاً وسقياً، كما تسهم في الحد من التصحر، وتنمية عمل المرأة الريفية والترويج السياحي، وغير ذلك.
ما نود قوله: إن المؤشر يشكل أداة تسويقية «عابرة للحدود»، تخدم الصناعة والبلد المنتج للسلعة معاً، ذلك أن الجودة والموثوقية لمنتج ذي منشأ معروف وشهير، تجعل المستهلكين يقبلون عليه ويطلبونه، فنحن لا نختلف مثلاً حول جودة النعل الإيطالي أو العطر الفرنسي أو البن اليمني، بل نرحب بمنتجات لعلامات تجارية مرتبطة بهذا البلد أو ذاك.
وعلى الرغم من تنوع بيئات وتُرب ومياه الوطن العربي، فضلاً عن معالمه الأثرية والسياحية، فإن الاهتمام بتسجيل وحماية المؤشرات الجغرافية ما زال دون المستوى المطلوب، فيما يتسارع الأداء عالمياً في هذا القطاع، إذ تظهر البيانات الواردة من 86 إدارة وطنية وإقليمية إلى المنظمة العالمية للملكية الفكرية (وايبو) WIPO، أن هناك ما يقدر بنحو 58600 مؤشر جغرافي محمي، عام 2023.
وامتلكت الصين، خلال العالم نفسه، 9785 مؤشراً، تلتها ألمانيا ب7586، وهنغاريا 7290، والتشيك 6657، علماً بأن المنتجات الزراعية والمواد الغذائية شكلت 44.8% من هذه المؤشرات، ما يعيدنا إلى فرضية أن الإنتاج الزراعي والغذائي، هو العمود والمكون الرئيس للمؤشرات الجغرافية، فضلا عن الصناعات التحويلية المرتبطة بهذين القطاعين.
عالمياً، تعمل المؤشرات الجغرافية وتُحمى تحت مظلة تلك المنظمة، وهي إحدى الوكالات المتخصصة التابعة للأمم المتحدة، التي تضم في عضويتها 183 دولة، وتعمل على تطوير القوانين الدولية والمعاهدات المتصلة ببراءات الاختراع والعلامات التجارية والرسوم والنماذج الصناعية والبيانات الجغرافية وحقوق المؤلف.
* إعلامي اقتصادي
0 تعليق