السرد القصصي بين الوحي والواقع: كيف تصنع القصة أثرها في النفوس؟ - اخبار الكويت

0 تعليق ارسل طباعة
تم النشر في: 

13 مايو 2025, 12:29 مساءً

بعد نشر مقالنا الأخير بعنوان "لماذا تبقى القصص في ذاكرتنا... وتذوب الأرقام؟"، والذي تناولنا فيه التأثير النفسي العميق للسرد القصصي، تفاعل قراءنا بشكل كبير مع المقال. جاءت ردود الأفعال محمّلة بتساؤلات أعمق، تتعلق بالقصص في القرآن الكريم وكيف كانت وسيلة لتوجيه الرسائل الإلهية بطريقة تُؤثر في النفوس وتثبت القلوب. قصص الأنبياء في القرآن ليست مجرد حكايات عن الماضي، بل هي مفاتيح لفهم الحياة، وتصحيح المسار، واستخلاص العبر. قصص مثل يوسف، وموسى، وأصحاب الكهف، تعكس رحلة الإنسان من الظلم إلى العدل، من اليأس إلى الأمل، ومن الضعف إلى القوة. وكل واحدة من هذه القصص تأتي لتخاطب الإنسان في كل زمان ومكان، تلامس مشاعره وتدفعه للتأمل.

هذا التفاعل لم يكن مفاجئًا. فالقصة ليست مجرد كلمات تُروى، بل هي جسر قوي يصل بين العقول والقلوب، ويخاطب جوهر الإنسان بأسلوب يجعل الفهم أعمق، والتأثير أكبر. سواء كانت القصة من كتاب مقدس أو من تجربة إنسانية ملامسة لواقعنا، فهي تصنع معنا رابطًا داخليًا لا يمكن تجاهله، بل يظل يلتصق بالذاكرة أكثر من أي معلومة رقمية جافة.

السرد القصصي في القرآن الكريم: بلاغة تربي، وتواسي، وتثبت

في القرآن الكريم، لم تُستخدم القصة لتسلية العقول، بل لتهذيب القلوب وتثبيت النفوس. قال الله تعالى: "نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن" [يوسف: 3] وفي موضع آخر: "وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك" [هود: 120]

كانت القصة القرآنية تُروى لتؤسس مفاهيم، وتُعلّم بالرمز، وتفتح المجال للتأمل والمراجعة دون فرض مباشر. قصة يوسف، مثلًا، لم تكن مجرد سرد لحوادث متتالية، بل رحلة إنسانية نفسية، تمضي من عمق الألم إلى تمام التمكين، مرورًا بالصبر، والظلم، والمغفرة.

وقصة موسى عليه السلام، تكررت مرارًا، وكل تكرار حمل وجهًا مختلفًا من وجوه النفس البشرية، والصراع، واليقين. أما أصحاب الكهف، فقصتهم نموذج للتساؤل عن الزمن، والثبات على الإيمان في وجه الغموض، وليس فقط رواية لعزلة شبابية.

في كل قصة قرآنية، نُدرك أن الله يخاطب الإنسان من حيث يشعر، لا من حيث يُملى عليه. فالقصة أقدر على تسكين الخوف، وترسيخ المعنى، وبناء الرابط الداخلي بين الموقف والمغزى.

السرد في المحاضرات والمواقف اليومية: حين تتكلم القصة بلسان الواقع

خارج النصوص والمراجع، في قاعة محاضرة أو لقاء مجتمعي، تُقال المعلومات وتُعرض الإحصاءات، لكن ما يعلّق في الذهن غالبًا هو قصة واحدة قيلت من القلب.

في تجربتي كمحاضِرة، لاحظت أن اللحظة التي ينتبه فيها الحضور، ويتغير فيها تعبير وجوههم، ليست حين أستعرض المفاهيم، بل حين أبدأ بـ"سأروي لكم قصة واقعية..." حينها فقط، تتوقف العيون عن الشرود، وتتسع المسافة بين الفكرة والقلب.

القصة في المحاضرة لا تأتي لتزيين المحتوى، بل لتجسيده. هي الجسر بين النظرية والتجربة، بين العقل والموقف، بين الرسالة والمتلقي.

وفي مواقف الحياة اليومية، نروي دون أن نشعر: حين نواسي، حين نُقنع، حين نربّي، حتى حين نُعاتب... نعتمد على قصة، أو تجربة سابقة، أو حكاية سمعناها من غيرنا، لنُقرّب شعورًا أو نُعبّر عن موقف.

القصص اليومية تُعلّم وتُرسّخ من حيث لا نحتسب، لأن الإنسان لا يتفاعل مع التعليمات بقدر ما يتجاوب مع الحكايات التي تشبهه، وتلك اللحظات الصغيرة التي يكتشف فيها نفسه في قصة شخص آخر.

وفي النهاية... بين الوحي والواقع، القصة هي الجسر

من قصص الأنبياء إلى مواقفنا اليومية، من آيات تُتلى إلى حكايات نرويها في محاضرة أو جلسة عابرة، تظل القصة أعظم أداة للتأثير، لا لأنها تدهشنا... بل لأنها تُشبهنا.

القرآن الكريم استخدم القصة لتثبيت القلوب، ونحن نستخدمها اليوم لنفهم أنفسنا، ونلمس غيرنا، ونمنح أفكارنا صوتًا يتردد في الوجدان.

السرد القصصي ليس مجرد وسيلة إيصال، بل وسيلة اتصال تختصر المسافة بين العقل والعاطفة، بين التوجيه والتأثر، بين الفكرة والتغيير.

وفي عالم يتسارع فيه كل شيء، ربما ما نحتاجه فعلًا ليس المزيد من المعلومات... بل المزيد من الحكايات التي تُروى بصدق، وتُلامس الإنسان فينا.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق