خالد الحوسني*
في عالم يتسم بسرعة التغير وتزايد التحديات، تبرز الحاجة الملحة إلى تأسيس «مجلس تقييم الأداء والحوكمة» كأداة استراتيجية، تدعم اتخاذ القرار الحكومي الرشيد، وتحقق التنمية المستدامة، فمع توسع المدن وإطلاق مشاريع ضخمة في البنية التحتية والمواصلات، لتحفيز الاقتصاد وتحسين جودة الحياة، ظهرت تحديات غير متوقعة، مثل الضغط على المناطق الحضرية وارتفاع معدلات التلوث، نتيجة غياب التقييم الشامل للآثار الاجتماعية والبيئية.
هذا الواقع يسلط الضوء على أهمية وجود مجلس متخصص، يضمن دراسة شاملة لتبعات السياسات والمبادرات من جميع الجوانب، ويعزز كفاءة العمل الحكومي وجودة الخدمات المقدمة للمجتمع.
إن تعقيد بيئة صنع القرار، وتداخل الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية والبيئية، إلى جانب بعض الاعتبارات الأمنية والسياسية، يتطلب من الحكومات تبني رؤية استباقية شاملة تدرس الآثار المحتملة لأي مشروع أو سياسة. ومن خلال تجارب دول رائدة مثل المملكة المتحدة، التي أظهرت تقييماتها للمشاريع الكبرى أهمية وجود مؤسسات متخصصة في تقييم الأثر، يتضح أن هذا النهج يرفع من جودة السياسات الحكومية، ويحقق توازناً بين النمو الاقتصادي، وحماية البيئة والعدالة الاجتماعية، كما يساهم في تعزيز الاستقرار العام على مختلف الأصعدة.
رغم وجود ممارسات تقييم جزئية في بعض الجهات الحكومية، إلا أن غياب جهة موحدة يؤدي غالباً إلى جهود متفرقة، تفتقر إلى التكامل والشمول، ما يضعف فاعلية القرارات الحكومية. لذلك، يصبح إنشاء مجلس مركزي لتقييم الأداء والحوكمة ضرورة استراتيجية، حيث يضمن توحيد الرؤية والمنهجية، ويعتمد أفضل المعايير العالمية لتحقيق تحليلات موضوعية ومحايدة، تمنع تضارب المصالح وتوجه العمل نحو الأهداف المشتركة.
ويتجاوز دور المجلس مجرد قياس النتائج، ليشمل تعزيز كفاءة القرار الحكومي، عبر تحليل معمق للتداعيات المحتملة، سواء كانت إيجابية أو سلبية، ما يساهم في الكشف المبكر عن المخاطر وتوجيه الموارد بكفاءة.
علاوة على ذلك، يساهم المجلس في رفع مؤشرات تنافسية الدولة، ويعزز جهودها في جذب الاستثمار الأجنبي، من خلال توفير بيئة حوكمة تدار وفق أعلى المقاييس العالمية، تعكس جدية الدولة في تحقيق التنمية المستدامة وجذب رؤوس الأموال.
وتؤكد تقارير البنك الدولي ومنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD) أن دمج تقييم الأثر في مراحل صنع القرار يحسن جودة الحوكمة، ويعزز التنمية المستدامة، كما يحقق وفورات مالية، عبر تجنب الأخطاء المكلفة وإعادة توجيه الموارد بكفاءة.
يلعب المجلس دور الدرع الوقائي قبل صدور القرار، حيث يكشف المخاطر والفرص ويوجه الموارد نحو الخيارات الأكثر فاعلية، ويدعم اتخاذ قرارات مبنية على بيانات دقيقة وتحليلات علمية، كما يعزز الشفافية والمشاركة المجتمعية، ما يرفع من شمولية القرارات وقبولها، ويساهم في الاستقرار المجتمعي والسياسي.
ويمتد دور المجلس إلى ما بعد التنفيذ، حيث يقيس الأثر الفعلي، ويتيح تصحيح المسار بسرعة عند ظهور آثار غير متوقعة، ما يعزز قدرة الحكومة على التكيف وتطوير السياسات المستقبلية.
وتعد مشاركة أصحاب المصلحة من المجتمع المدني والقطاع الخاص والمواطنين جزءاً أساسياً من عملية تقييم الأثر، إذ تضمن هذه المشاركة أن تكون القرارات أكثر شمولية وواقعية، وتساعد في الكشف عن آثار قد تغيب عن الجهات الحكومية وحدها، بما في ذلك الجوانب الاجتماعية والاقتصادية والبيئية والأمنية التي قد تظهر لاحقاً.
وتبرز هنا أهمية المنصات الرقمية الحكومية في تسهيل هذه المشاركة، حيث تتيح جمع الآراء والمقترحات من مختلف الفئات بشكل فعال وشفاف، وتعزز الحوار المجتمعي حول السياسات والمشاريع قبل اتخاذ القرار النهائي.
ورغم التحديات المحتملة، مثل مقاومة التغيير ونقص الكفاءات وصعوبات التنسيق، فإن تبني التكنولوجيا الحديثة، وتوزيع المهام بشكل لامركزي مع إشراف مركزي، إلى جانب برامج تدريب الكوادر الحكومية، كلها عوامل تضمن كفاءة وسرعة عمليات التقييم دون التأثير على سير العمل الحكومي. كما يمكن للمجلس الاستفادة من الشراكات مع مؤسسات دولية وبرامج بناء القدرات لتجاوز هذه العقبات.
في الختام، لم يعد إنشاء مجلس تقييم الأداء والحوكمة خياراً، بل ضرورة استراتيجية لضمان حوكمة رشيدة وتنمية مستدامة واستقرار مجتمعي وسياسي. إن وجود هذا المجلس سيحول القرار الحكومي من رد فعل إلى استشراف مستقبلي مدروس، ويعزز قدرة الحكومة على بناء سياسات فعالة وقادرة على الصمود أمام التغيرات، ويضع الدولة في مصاف الدول الرائدة عالمياً في الحوكمة والتطوير المستدام. لذا، فإن الإسراع في تأسيس هذا المجلس يجب أن يكون أولوية وطنية في المرحلة المقبلة، لضمان تحقيق أفضل النتائج وتعزيز مكانة الدولة على الساحتين الإقليمية والدولية.
* مستشار إدارة الأداء، ماجستير في السياسة والتجارة الدولية
[email protected]
0 تعليق